كيف تعامل شعراء المعلقات مع الرموز والدلالات النفسية..؟
رموز تعكس حالات الفرح والانتصار والحياة.. وأخرى تختص بالخوف والنهاية والموت
يقول ابن عبد ربه في «العقد الفريد» إن «الشعر ديوان خاصة العرب، والمنظوم من كلامها، والمقيد لأيامها، والشاهد على حكامها، حتى لقد بلغ من كلف العرب به وتفضيلها له، أن عمدت إلى سبع قصائد تخيرتها من الشعر القديم فكتبته بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهبة امرؤ القيس، ومذهبة زهير، والمذهبات سبع، ويقال لها المعلقات».
ويقول البغدادي في «خزانة الأدب»: «ان العرب كانت في الجاهلية يقول الرجل منهم الشعر في أقصى الأرض فلا يعبأ به ولا ينشده أحد، حتى يأتي مكة في موسم الحج فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه روي وكان فخراً لقائله وعلِّق على ركن من أركان الكعبة حتى يُنظر إليه، وإن لم يستحسنوه طُرح ولم يُعبأ به».
بعد هذه الإطلالة الأولية على المعلقات، نطالع اليوم كتاباً بعنوان «جوانب نفسية في المعلقات العربية»، من تأليف الدكتور عبد الله أحمد باقازي، صدر بـ192 صفحة من القطع الكبير، ضمن مطبوعات نادي مكة الثقافي. وبعد مقدمة للكتاب، وتناول لمعنى المعلقات، حاول المؤلف أن يكشف عبر أربعة فصول، ملامح نفسيات شعراء المعلقات: خوفهم، حزنهم، ألمهم النفسي، وعلاقة البيئة والحيوان وغيرها من الأمور المحيطة بالجانب النفسي.
وبين رأي يقول ان المعلقات هي سبع، وآخر يقول انها عشر، نجد أن الدكتور باقازي قد اعتمد في دراسته للجوانب النفسية على عشر معلقات للشعراء: امرؤ القيس، طرفة بن العبد، زهير بن أبي سلمى، لبيد بن ربيعة العامري، عنترة بن شداد، عمرو بن كلثوم، الحارث بن حلزة اليشكري، الأعشى،النابغة الذبياني، عبيد بن الأبرص.
وبعد أن تحدث في الفصل الأول عن جوانب نفسية إنسانية لدى شعراء المعلقات، خلص إلى أن معلقة امرؤ القيس تجسد الصراع النفسي بين عوامل الموت والحياة من خلال وصف: «الليل/الحيوان المخيف»، والفرس المنقذ الرامز للأمل والمشعر به، ومن خلال وصف: السيل والمطر، وعوامل حياة قضت على «السباع» رمز «الموت» المفزع نفسياً للشاعر.
أما معلقة زهير فيصفها بأنها معلقة «التأمل والحكمة» من خلال الجانب التأملي الرزين لها، ونظراته المتعلقة بالكون والحياة. ففي مواجهة شبح «الحرب» المخيف الذي زحف على الشاعر، برز عنده طلب الإحساس بالأمن النفسي والاستقرار، والتوق إلى الإحساس بجمال «الحياة» من خلال وصف «الظعائن» ورحلتهن: رحلة أمن نفسي جمالية في مواجهة رعب الحرب النفسي.
ولدى حديثه عن معلقة طرفة فإنه يعدها معلقة «التأمل والحكمة» من خلال الجانب التأملي النفسي لطرفة في كنه الحياة وأسرارها، والإحساس بجمالها، إلى جانب الإحساس بالموت كهاجس مسيطر.
وبالانتقال إلى معلقة لبيد نجده يصفها بمعلقة الإحساس بـ«الأرض/القفر»، والإحساس بالصراع النفسي لعوامل «الحياة/الجمال» مع «الكلاب» رمز «الموت/النهاية»، وكان انتصار الظبية لديه هو رمز للإحساس بانتصار عوامل «الحياة» على عوامل «الموت» في بيئة صحراوية جافة مساعدة على الموت.
وبعد ذلك يصف معلقة عنترة بأنها معلقة «الفخر/إثبات الذات» في مواجهة الإحساس بالإهمال و«الدونية»، وأن الإحساس بـ«القوة» هو شعور نفسي لإثبات الذات على المستويين الإنساني والاجتماعي.
ولدى تناوله معلقة عمرو بن كلثوم يشدد على أنها معلقة إثبات «الذات»، وتجسيد الشعور بـ«الأنا»، الذي تضخم في مواجهة العدو نفسياً، وقد كانت قافية المعلقة «النونية» المطلقة بالألف، تأكيداً على الإحساس الواضح بالـ«أنا». ويرى أن معلقة الحارث هي معلقة الإحساس بـ«الغضب»، والإحساس بمواجهة الخصم من خلال «الحوار الساخن» معه، ودحض حججه وإبطالها وفق شعور نفسي من حرارة الإحساس.
وفي هذا المنحى يرى أن معلقة الأعشى تعبر عن الإحساس النفسي بجمال «الحياة»، والربط النفسي من خلال الإحساس بالجمال بين: «الإنسان/الطبيعة» من خلال معادلة: «المرأة/الروضة المزهرة الخضراء». وعلى صعيد آخر يرى أن معلقة النابغة هي معلقة الإحساس بـ«الخوف» وسيطرة هذا الشعور على الشاعر والوقوع تحت تأثير «الفزع» ثم «الاعتذار». أما بالنسبة لمعلقة عبيد فيرى إنها تعبر عن الإحساس بالموت والنهاية من خلال وصف الديار الخالية، القفر، والإحساس بالصراع النفسي لعوامل «الحياة/الموت» من خلال المشهد الدرامي لصراع: «الثعلب/العقاب».
وفي الفصل الثاني من الكتاب يتحدث الدكتور باقازي عن صلة الحيوان النفسية والجمالية والنفعية بالإنسان الشاعر، فيرى أن للفرس صلة مشاركة وتمازجا نفسيا عند كل من امرؤ القيس وعنترة، وأن للناقة صلة نفسية تمازجية نفعية، وللثور الوحشي صلة نفسية ترمز إلى الصراع النفسي لعوامل: «الموت/الحياة»، وقد بدت صلة الناقة والبقرة الوحشية، والثور الوحشي ـ شأنها شأن الفرس ـ عند بعض الشعراء مثل طرفة، عنترة، عبيد، زهير، لبيد، امرؤ القيس، النابغة. ويتحدث في الفصل الثالث عن الجوانب النفسية للحيوان والطير والحشرات، فيتطرق إلى جانبي حزن وزهو الناقة عند بعض الشعراء، مثل طرفة وعمرو بن كلثوم وعنترة، ومرح وزهو الفرس عند امرؤ القيس وعنترة، و«البقرة المفزوعة» و«المستقرة نفسيا» عند كل من طرفة ولبيد، ثم تناول خوف الثور الوحشي عند النابغة، و«النعامة المفزوعة» عند الحارث، و«الثعلب الخائف» عند عبيد. وبصدد «نفسية الطير» تحدث عن الطيور المرحة لدى امرؤ القيس. وفي مجال «نفسية الحشرات» تحدث عن الذباب المرح لدى عنترة. أما الفصل الرابع فيخصصه للحديث عن بعض الرموز والدلالات النفسية مثل الفرح والانتصار والحياة التي جسدتها رموز: الطيور، والحصان، والفرس، والبقرة الوحشية، والثور الوحشي. وبالنسبة لرموز الخوف والنهاية والموت، يرى أنها تتجسد في «الليل/الحيوان المخيف»، و«السباع»، و«الناقة/الحرب»، و«الظعائن». وقد تجسدت هذه الرموز عند بعض الشعراء مثل امرؤ القيس، وزهير، ولبيد، وعمرو، والأعشى، وعنترة، وطرفة. كما برزت رموز أخرى للخوف والنهاية والموت، جسدتها بعض الحيوانات مثل الثور الوحشي عند امرؤ القيس والنابغة، و«الكلاب» عند لبيد والنابغة، و«العقاب» عند عبيد.