إن من عقوبات المعاصي أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه ، فإن كل أحد يحتاج إلى معرفة ما ينفعه وما يضره في معاشه ومعاده ، وأعلمُ الناس أعرفهم بذلك على التفصيل ، وأقواهم وأكيسهم من قوي على نفسه وإرادته ، فاستعملها فيما ينفعه وكفها عما يضره ،،، وفي ذلك تتفاوت معارف الناس وهممهم ومنازلهم ، فأعرفهم من كان عارفا بأسباب السعادة والشقاوة ، وأرشدهم من آثر هذه على هذه ، كما أن أسفههم من عكس الأمر .
والمعاصي تخون العبد أحوج ما كان إلى نفسه في تحصيل هذا العلم ، وإيثار الحظ الأشرف العالي الدائم على الحظ الخسيس الأدنى المنقطع ، فتحجبه الذنوب عن كمال هذا العلم ، وعن الاشتغال بما هو أولى به ، وأنفع له في الدارين .
فإذا وقع مكروه واحتاج إلى التخلص منه ، خانه قلبه ونفسه وجوارحه ، وكان بمنزلة رجل معه سيف قد غشيه الصدأ ولزم قرابه ، بحيث لا ينجذب مع صاحبه إذا جذبه ، فعرض له عدو يريد قتله ، فوضع يده على قائم سيفه واجتهد ليخرجه ، فلم يخرج معه ، فدهمه العدو وظفر به .
كذلك القلب يصدأ بالذنوب ويصير مثخنا بالمرض ، فإذا احتاج إلى محاربة العدو لم يجد معه منه شيئا ، والعبد إنما يحارب ويصاول ويقدم بقلبه ، والجوارح تبع للقلب ، فإذا لم يكن عند ملكها قوة يدفع بها ، فما الظن بها ؟
وكذلك النفس فإنها تخبث بالشهوات والمعاصي وتضعف ، أعني النفس المطمئنة ، وإن كانت الأمارة تقوى وتتأسد ، وكلما قويت هذه ضعفت تلك ، فيبقى الحكم والتصرف للأمارة .
وربما ماتت نفسه المطمئنة موتا لا يرتجى معه حياة ينتفع بها ، بل حياته حياة يدرك بها الألم فقط .
والمقصود أن العبد إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له ، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والإنابة إليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه ، ولا يطاوعه لسانه لذكره ، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه ، فينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر الذكر ، ولا ينحبس القلب واللسان على الذكر ، بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب لاه ساه غافل ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه .
وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي كمن له جند يدفع عنه الأعداء ، فأهمل جنده ، وضيعهم ، وأضعفهم ، وقطع أخبارهم ، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة .
هذا ، وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى منه وأمر ، وهو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى ، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة ، كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك ، حتى قيل لبعضهم : قل لا إله إلا الله ، فقال : آه آه ، لا أستطيع أن أقولها ...ولا حول ولا قوة إلا بالله
يا آمنا من قبيح الفعل منه أهل*** أتاك توقيع أمن أنت تملكه
جمعت شيئين أمنا واتباع هوى*** هذا وإحداهما في المرء تهلكه
والمحسنون على درب المخاوف قد*** ساروا وذلك درب لست تسلكه
فرطت في الزرع وقت البذر من سفه*** فكيف عند حصاد الناس تدركه
هذا وأعجب شيء منك زهدك في*** دار البقاء بعيش سوف تتركه !!
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)