أتقنعُ بالبيضِ... ويفوزُ غيرُك بالذبائحِ
كتبه/ إيهاب الشريف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فكثيرةٌ هي الذنوبُ، ومتنوعةٌ أسبابُها، وواقعنا الذي نعيشه قد ازدادت فيهالمنكرات وانتشرت، وانغمس كثيرٌ من الناس في ذنوبٍ بين صغائرَ وكبائرَ، ففيالشوارع منكراتٌ، وفي الأعمال والوظائف منكراتٌ، وفي العلاقات مخالفاتٌ، وفيالبيوت منكراتٌ، وبين العبد وربه هفوات وزلات.
لهذا كله يحتاج العبد للأخذ بما أتى به الشرع من المكفِّرات ورافعاتالدرجات، حتى إذا خرج من دار الابتلاء والاختبار -الدنيا- تكون حسناتُه قدغلبت على سيئاته، وحصل على رضى ربه -عز وجل-.
ومن رحمة الله -عز وجل- بنا أنْ شَرَعَ لنا العديدَ من الأعمال الصالحة التيتكفر الذنوب، بل تغسل الخطايا غسلاً، وتمحوها محواً.
والعجيب هو تهاونُ المكلفِفي الأخذ بهذه المكفِّرات، وعدم مسارعته إلى الخيرات، فتكون المحصلة:
تراكمالسيئات، ولربما الوقوع في الموبقات؛ لأن الشيطان بطيءٌ ملحاحٌ لا يقنع منالشر باليسير.
وفي هذه العجالة نشير إلى كَنز عظيم تهاون به كثير من الناس، بل وللأسف كثير من الملتزمين، مع عظم الأجر المترتب عليه.
ذلك الكنز هو: "فضل التبكير إلى صلاة الجمعة"، وعنه يقول البشير النذير-صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) متفق عليه، وفي رواية: (على كل بابمن أبواب المسجد يوم الجمعة ملكان يكتبان الأول فالأول، كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم شاة، وكرجل قدم طيرا، وكرجل قدم بيضة، فإذا قعدالإمامُ طويت الصحف) رواه ابن خزيمة، وصححه الألباني.
آه.. آه.. كم من البُدْنِ -الإبل- قد ضاعت منا؟! لو عُرض عليك -أخي- التصدقُبجَمَلٍ والتصدقُ ببيضة، فأيهما تقدم؟ وبأيهما تتصدق؟ كم بينهما من التفاوت؟عشرة آلاف... خمسون قرشا!!
كم تكون حسرة الواحد منا لو خسر في صفقة تجارية مثل هذا الأجر؟!
هل صِرْنا كما قال الله -تعالى-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا .وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(الأعلى:16-17)، (كَلا بَلْ تُحِبُّونَالْعَاجِلَة . وَتَذَرُونَ الآخِرَة)(القيامة:20-21)؟!
كيف طابت أنفسنا بالتهاون والتساهل في هذا الخير؟!
بالله عليك -أخي كن صادقا- لو عرض عليك أن تحضر في الثامنة صباحا إلىالمسجد وتأخذ جملا أو بقرة أو كبشا.. وإن تأخرت فبيضة... فهل ستتأخر؟!
لو عرف عن بعض المساجد أنه سيوزع على المُبَكِّرين إلى الجمعة دجاجة لكل مُصَلٍّ-لا نقول جِمالا أو أبقاراً أو خرافاً- بل دجاج فقط! فيا ترى كيف ستكونطوابير الاستلام على أبواب المساجد؟!
وأترك لذهنك السباحة في بحر التخيل لتتصور معي كيف سيكون الحال لو كانتالتوزيع لجمال أو أبقار أو خراف؟!
فلربما وقعت أثناء ذلك بعض الخسائر فيالأرواح والأبدان، والله المستعان!!
فكيف يكون بإمكانك أن تتصدق -أن تهدي- جملا أو بقرة أو كبشا ثم تعدل عن ذلك كله إلى البيضة، يا محب البيض؟!!
أفي المكسب الدنيوي تتنافس وعند الأجر الأخروي تتقاعس؟!
إننا لا نقلل من قدر الأجر المترتب على إهداء البيضة؛ لأنه ورد في الحديث،لكننا نتحسر على ما يفوت من الأجر وهذا شأن المؤمن دوما يحزن إذا فاتهالخير أو ضاع منه الأجر.
وما رأيك الآن في إحصائية توضح لنا ما يفوت من الأجر -مع عدم التبكير- في السنة الواحدة... تَعَالَ معي:
في الشهر 4 جمع على الأقل، وفي السنة 48 جمعة تقريباً.
فإذا أخذنا عينة من أعمارنامقدارها 10 سنوات لنرى الخسارة فيها كم تكون فكما يلي: 48 × 10 = 480 جمعة على التقريب.
ولو افترضنا أن سعر الجمل 10.000 جنيها: 480 × 10.000 = 48.00000 (أربعةملايين وثمانمائة ألف جنيهٍ) ضاعت من عبدٍ أهمل التبكيرَ إلى الجمعة خلال عشرسنوات... فكيف بباقي العمر؟ وكم يكون مقدارُ الخسارة يوم القيامة؟!
كل هذا المبلغ كان يستطيع أن يتصدقَ به، ويُكتَب في ميزان حسناته... فكيف تطيبالنفس بالتكاسل عنه؟!
إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد فرطنا في أجور كثيرة!!
ثم أليس عندنا من السيئات ما يؤرقنا فيجعلنا نبكِّرُ للجمعة لنحصل ذلك الأجر: (فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً)، كأنك تصدقت بعشرة آلاف أسبوعياً، وهل لو امتلكت تلكالعشرة هل ستطاوعك نفسك لإخراجها؟
وإن لم تكنْ هناك ذنوبٌ -وهيهات-، فَلِمَ الزهدُ في رفعِ الدرجات وزيادة الحسنات؟!
مع العلم أن من تقاصرت همته حتى عن التصدق بالبيضة فأتى بعد ما صَعِدَ الإمامُالمنبرَ فإنه -ويا للحسرة!!- لا يكتب في صحف الملائكة!
كم من الأموال تُدفَع، وكم من المساعي تُبذَل لتُسجَل أسماءٌ في وفودٍ دنيويةٍ لا تساويشيئا إذا قورنت بهذه الكتابة الملائكية؟!
وليس ذلك فحسب، بل ما زالتالكنوز تتدفق بين أيدينا، فبالإضافة إلى ما سبق يقول -صلى الله عليه وسلم-: (من غسلَ واغتسلَ، ودنا وابتكر،َ واقتربَ واستمعَ، كان له بكل خطوة يخطوها قيامسنة وصيامها) رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
وبنفس الطريقة نحسب كم يفوت المتأخرين من الأجور:
لكل خطوةٍ = عملُ سنةٍ صياما وقياما.
بشرط: الغُسْل، والتبكير، والدُّنُو من الإمام، والاستماع والإنصات للخطيب.
فلو كان بينك وبين المسجد 100خطوة × 48جمعة في السنة = 4800خطوة في السنة
4800 × 10 سنوات = 48.000 خطوة في عشر سنوات.
وكل هذه الخطوات خلال هذه الجمع في تلك السنوات تحسب للمسارع إلى الخيرات،كل خطوة منها بعبادة سنة صياما وقياما!! ومن منا يعيش هذه المدة الطويلة؟
ولو عاشها فهل يقوى على صيامها وقيامها؟ فلمَ التفريطُ في تحصيلها بخطوات إلى المسجد وشروطٍ كلُنا يقدر عليها؟
فهل تعلم أن خُطاك هذه في سبيل الله: (وَمَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيْلِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارَ) رواه البخاري.
ومع عدم تخطي الرقاب، وعدم إيذاء المصلين تكون الجمعة لصاحبها كفارة لمابينها وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، فعن أبي هريرة -رضي اللهعنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من توضأ فأحسن الوضوء ثمأتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيامومن مس الحصى فقد لغا) رواه مسلم.
- ومع المحافظة على الغُسْل: (من غسل واغتسل يوم الجمعة لم يزل طاهرا إلى الجمعة الأخرى) رواه ابن خزيمة، وحسنه الألباني.
- ومع قراءة سورة الكهف: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) رواه البيهقي، وصححه الألباني.
- ولك في يوم الجمعة ساعة إجابة -بإذن الله- لا يوافقها عبد يسأل الله-تعالى- شيئا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه ما لم يدع بإثم أوقطعية رحم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: (التمسوا الساعة التي ترجى في يومالجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس) رواه الترمذي، وصححه الألباني.
- ولا تنس صاحب كل هذا الخير -بعد الله عز وجل- حبيبك رسول الله -صلى اللهعليه وسلم- فأكثر من الصلاة عليه، (فأكثروا من الصلاة عَلَيَّ فيه) رواه أبوداود، وصححه الألباني, وأبشر بقول -صلى الله عليه وسلم-: (فإن صلاتكممعروضةٌ علي) رواه أبو داود، وصححه الألباني.
- وَزِدْ بشراً وفرحا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أكثروا الصلاة علي، فإن اللهوكل بي ملكا عند قبري فإذا صلى علي رجل من أمتي قال ذلك الملك: يا محمد إنفلان بن فلان صلى عليك الساعة) رواه الديلمي في مسند الفردوس، وحسنهالألباني.
- فيا بُشَراكَ؛ واسمُك يتردد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويلفظه الملك!!
- وخذ أيضا: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات) رواه النسائي، وصححه الألباني. فكم ستصلي عليه إِذَنْ؟
- فيا ترى بعد كل هذا البيان كيف سيكون احتفاؤك بيوم الجمعة؟ كيف سيكونإقبالك على ذلك الزاد التربوي الإيماني العظيم؟
أليس من الممكن أن نجعلالجمعة محطة إيمانية -بدلا من عطلة أسبوعية- لتفريغ شحنة الذنوب، والتحملوالتزود بمعاني الإيمان للانطلاق حتى الجمعة المقبلة؟ بلى والله... ولكن: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج:32(.
وأختم كلمتي بهدية نبوية تحملك بإذن الله حملا للاهتمام بالجمعة:
يقول -صلى الله عليه وسلم-: (تحشر الأيام على هيئتها ويحشر يوم الجمعة زهراءمنيرة أهلها يحفون بها كالعروس تهدى إلى خدرها تضيء لهم ما يمشون في ضوئهاألوانهم كالثلج بياضا وريحهم كالمسك يخوضون في جبال الكافور ينظر إليهمالثقلان، لا يطرقون تعجبا حتى يدخلون الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنونالمحتسبون) رواه الطبراني وابن خزيمة، وحسنه الألباني.
ولا أظنك أخي بعد هذا كله ستظل من محبيالبيض.
تترقى همتك لتحرز هذه الحسنات التي تناديك يوم الجمعة: هَيْتَ لك، ويمر بك كلَأسبوعٍ سوقُها وتتجددُ لك بها فرص التوبة والمغفرة.. فهل من مشمر؟