ليت للبرّاق عيناً
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
لهذه الرسالة مغامرة فكرية فائقة الأداء , رائعة العرض , بعنوان ( ليت للبرّاق عيناً )
مهمتها الوصول إلى غور الوجدان , حيث مياه اليقين الدافئة .
فهو سلوة للمحرومين , الذين انقطعت بهم الحيل , وخيَّم عليهم اليأس , وضربوا بعصا الندم .
وهو عزاء للمنكوبين الذين ادلهمت عليهم ليالي الهموم , بكواكب بطئية حائرة من الهمم , واليأس , والفزع , واللوعة
وانعقدت عليهم سحب المصائب , فهم هناك وحدهم يبكون ويندبون ويجأرون .
وهذه الرسالة دفقة حب ثرِّ سخي يسيل من مقلة ترمق هؤلاء وتراهم أبدا ودائما في الأفق .
فهو رسالة لليتيم الباكي المتلفع بأسماله , حيث الهاجرة والجوع والإرجاف والضياع .
إلى الذين لا يبكون غذاء , ولا كساء , ولا ماء , ولا دواء , أنثر الكلمات بين يديهم في طبق من الحياء , والخجل
أن تكون مشاركة المحب جملا من كلام أو حروفا من حديث .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى صرعى القضاء والقدر المحتوم من رب العالمين وهم راضون صابرون محتسبون
يرون عن اختيار الله العظيم لهم خير من اختيارهم لأنفسهم , فهم أبدا في حلة التسليم والإذعان والخضوع .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى المنكوبين من عباد الله المؤمنين يحتسبون الثواب , ويطلبون الأجر , ويفرحون بحطَّ الخطايا ونسف السيئات .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى أن في الأمة المحمدية المعطاءة الودودة الولودة أناسا كادوا أن يشبهوا الملائكة طهرا وعفافا , اتخذ الله منهم شهداء
ضُرِبت جماجمهم في حومة الوغى وتدفقت دماؤهم في المعترك , وشهداء هناك حيث ارتفعت لهم المشانق ونصبت لهم الزنزانات والفلكات ,
ولسان الحال يقول لكل سفاك " قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ ( طه : 72 )
ليت للبرّاق عيناً :
ترى أشباه يحيى بن زكريا مذبحوين على الطريق في سبيل حب من يستحق كل الحب والشوق والود جلّ اسمه ,
وأحفاد عمر في المحاريب تُكَسر الرماح في ظهورهم , وهم راكعون ساجدون منيبون , يُمَزقون من أجل الكلمة وعلى حساب الميثاق وفي ذكرى العهد .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى آلاف القمصان تشبه قميص عثمان , كلها دماء هنا وهناك , وكل شهيد جاؤوا على قميصه بدم صدق .
الدم ثائر هادر يروي قصة فداء هؤلاء في سبيل المبدأ الطاهر , والمسيرة المقدسة , والمثل العليا الربانية .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى الصابرون على ألم الملح الجارف , وعلى اليأس المتلف , يترقبون أفق الظن الحسن وطالع الفأل وكتائب الفجر .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى عليَّا في محراب القداسة يثعب جبينه دماً زكياً فائحاً بطيب الشهادة , مسرعا إلى الله وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( طه : 84 )
ليت للبرّاق عيناً :
ترى أحمد بن حنبل يُجْلَد فما أنّ , ويضرب فما يصيح , ويحبس فلا ييئس .
فهو في هدوء الجبل الصامت , وفي رزانة الدهر الساكن , وفي ثبات القلعة الرابضة .
استعلاء على تفاهات الدنيا , وصعود إلى أوج الفضائل , وتصميم على حفظ المنهاج , وتوقد في ليل الأماني .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى خبيب بن عدي وآلافاً مثله وهو يرفع على خشبة الفناء .
فهتف الضمير الحي لا إله إلا الله محمد رسول الله , فإذا جلجلة الحق أكبر من زيف الباطل , وإذا اندفاع اليقين أعظم من زخم الزيف والكذب .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى العبد الصالح عبد الله بن عمرو الأنصاري يُقطَّع في جهاد أعداء ربه تقطيعا , ويمزق تمزيقاً ,
فكان الجزاء : مكالمة حية بلا ترجمان من الرحمن , وحديثاً خاصاً شائقاً مع رب المغارب والمشارق .
لماذا ...؟؟!! لأنه صدق في موطن تسقط فيه الجماجم , وتقع فيه الأنفس , ويهرب منه الجبان , ويذعر من هوله الموت .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى أصحاب الحديث يحملون المحابر يجوبون الديار , ويقطعون القفار , ويركبون البحار .
يأكلهم الجوع , ويحسوهم الظمأ , ويلفهم الليل الرهيب , وتحرق مواضع سجودهم الرمضاء , ومع ذلك يواصلون العطاء , والبذل , والاستفادة , والتحصيل والنفع .
يطربون بكلمة حديثاً طرب الواله الواجد لنغمة حبيبه , ويشتاق لسماع كلام المعصوم اشتياق النوق الواردة لخمس ليالِ على غدير صاف عذب رقراق .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى شيخا ابن تيمية في القلعة وهو يسبح ربه ويهتف في زنزانات السجناء بكلمات التوحيد الملتهبة الرائعة المهيمنة .
محبوس كأنه في نزهة , مسجون كأنه في عرس , مقيد وكأنه رحالة على ضفاف النهر .
ابن تيمية إيمان يشق طريقة إلى سراديب النفوس , وعلم يغرق فيه أدعياء الحكمة والمتطفلون على التفقه والاستنباط , وهمة تمر من السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى ابن المبارك وهو يروي للعالم قصة العالم المجاهد الزاهد العابد المثابر المتواضع .
ابن المبارك المولى الذي جعل الأحرار يتمنون وده , والسلاطين يخطبون لقاءه .
ابن المبارك الذي علم الناس أن العالم كلية عالمية من المواهب والقدرات , وخصال حميدة كالأعياد في الدهر , وأخلاق جميلة كنجوم السماء ,
وترجمة لنصوص الوحي يقرؤها العالم والأميِّ لفي شخص ناطق سميع .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى عقبة بن نافع وهو يتحدى المحيط المتلاطم ويهدد البحر المتماوج , بتوحيده وبقلبه وبإبائه وبصموده , يا ماء ,
والله لو أعلم وراءك أرضاً لخضتك بفرسي هذا لأرفع لا إله إلا الله .
ليت للبراق عيناً / ترى مالك بن أنس إمام دار الهجرة وهو يعلم الحديث الشريف في الروضة الشريفة ستين سنة يلقن الحكمة , ويعلم الأمة الخير ,
ويحي القلوب , ويقمع البدع , ويسخر الشياطين , ويرفع معالم السنن , وينشئ أجيالاً سنية سلفية أحمدية .
ليت للبرّاق عيناً :
ترى سعيد بن المسيب إمام التابعين لم تفُته تكبيرة الإحرام في جماعة ستين سنة , يُضرب مائة سوط لأنه لم يداهن ولم يراهن , بل سطع ولمع ,
يُضرب كما يضرب غرائب الإبل لأن كيانه يقول : وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( هود : 79 )
من كتاب / مملكة البيان .
تأليف / د : عائض بن عبد الله القرني .