مما يدعو للأسف أن جيل الصحابة - الذي هو النموذج الفريد لأفضلية الأمم- لم يتكرر مرة ثانية في تاريخ الأمة حتى الآن، ومن أهم الأسباب لذلك هو هجر الانتفاع بالقرآن كمصدر متفرد لتحصيل العلم والإيمان ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان : 30] .
إن مشكلتنا الرئيسة مع القرآن والتي تمنعنا من الانتفاع الحقيقي به هي ضعف إيماننا به، وثقتنا فيه كمصدر متفرد لتحصيل العلم والإيمان، ومن ثَمَّ التغيير .. ولك – أخي القارئ - أن تتأكد من هذا التشخيص بإجراء اختبار لنفسك وللآخرين، بأن تتخيل بأنك يومًا ما رغبت في قراءة شيء من الرقائق والمواعظ لترقيق قلبك، فاتجهت إلى مكتبتك، ووقع بصرك على كتاب التوهم للمحاسبي، والتبصرة لابن الجوزي، ومدارج السالكين لابن القيم، وإحياء علوم الدين للغزالي، ووقع بصرك – فيما وقع – على المصحف، فأي الكتب ستختار ؟! وما هو ترتيب القرآن في هذا الاختيار ؟!
ستُفاجأ أخي – كما حدث لي وفوجئت - بأن القرآن هو آخر كتاب ستختاره لهذه المهمة .. هذا إن كنت ستضعه في دائرة الاختيار والتفضيل .
إنه أمر يدعو إلى الحسرة .. كتاب الله أعظم وسيلة للتأثير يُصبح مهجورًا بهذه الطريقة ؟!
يا حسرة على العباد :
هل انطفأ نور القرآن ؟
لا والله، فهو كما هو النور المبين، وسيظل تأثيره أقوى من تأثير أي نور آخر، ولكننا أدرنا له ظهورنا، ولم نُحسن توجيه نوره لعقولنا وقلوبنا، فلم نشعر بأثره، فهل نقول لأنفسنا: « يا حسرة على العباد ؟!»
يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه : سيبلى ([1]) القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت ([2])، يقرؤونه لا يجدون له شهوة ولا لذة ([3]) .
لقد صدق معاذ رضي الله عنه، فلقد ضعفت قيمة القرآن في قلوبنا، وأصبحنا لا نجد اشتهاء للإقبال عليه، ولا لذة حينما نتلو آياته .
.. لقد تضافرت عوامل كثيرة أدَّت إلى هذا الهجر الخطير للقرآن، ولكن حيث أنه لا بديل أمامنا سوى العودة إليه والانتفاع به لتحصيل العلم النافع لعقولنا، والإيمان المتجدد لقلوبنا، والتزكية الصحيحة لنفوسنا، والحركة الدائبة لخدمة ديننا، فلابد من بذل غاية الجهد، واجتياز كافة العقبات التي تحول بيننا وبينه ..
أخي القارئ
لو أن رجلًا يعمل في مكان بعيد عن أهله، وعلِم أن ابنه قد مرِض مرضًا عضالًا، وأنه يحتاج إلى دواء (ما ) وصفه له الأطباء، وأن هذا الدواء غير متوافر ببلد الابن، فبحث عنه حتى وجده، ووضعه في صندوق محكم غاية الإحكام، وبالغ في وضع الأغلفة على الصندوق وأرسله إلى ابنه، وعندما وصلت العلبة إليه وعلم أن فيها دواءه حاول فتحها هو ومن حوله فلم يستطيعوا، فماذا تظن أنهم سيفعلون ؟
هل سييأسون من فتحها وينصرفون عنها، أم سيحاولون فتحها مرات ومرات ومرات حتى ينجحوا ؟
لقد أصبح بيننا وبين القرآن حجابًا كثيفًا، يحول بيننا وبين الانتفاع به، فلا ينبغي علينا أن نيأس إن أقبلنا على القرآن فلم نجد أي تجاوب، فالأمر يحتاج إلى محاولات متكررة، وإلحاح شديد على الله عز وجل، وتَبؤُّس وانكسار حتى يفتح لنا سبحانه أبواب القرآن، وتصل أنواره إلى عقولنا وقلوبنا .
يقول المحاسبي :
فإن طلبت الفهم بصدق أقبل عليك بالمعونة ..
لا يَثقُل فهم كلامه إلا على من تعطل قلبه ألا يسمع ..
فإن علم – سبحانه – من التالي لكتابه صدق ضمير، وعناية حتى يجمع همه للفهم، أفهمه.. ألا تسمعه يقول : ﴿ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا ﴾ [الأنفال : 70] .
فإذا أقبلت على الله بصدق نية، ورغبة لفهم كتابه بإجماع همٍّ، متوكلًا عليه أنه هو الذي يفتح لك الفهم : لم يخيبك من الفهم والعقل عنه إن شاء الله ([4]).
ويقول الزركشي :
إذا كان العبد مصغيًا إلى كلام ربه، مفتقرًا إلى التفهم، بدعاء وتضرع، وابتئاس وتمسكن، ومنتظرًا للفتح عليه من الفتاح العليم، وأن تكون تلاوته على معاني الكلام ؛ فهذا القارئ أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وفي مثله يقول الله تعالى : ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة : 121] .. وهذا هو الراسخ في العلم ([5]).
فمن هنا نقول - بيقين – بأننا إن استطعنا أن ندخل على القرآن دخول التلميذ المُتشوق للمعرفة حينما يُقابل أعظم أستاذ، وداومنا على ذلك، فإن القرآن سيفتح لنا أبوابه، وسيغزو نوره قلوبنا، لنكون من بعد ملاقاته قومًا صالحين بإذن الله، وأكثر إيمانًا وبهجة وسكينة .
التحدي الكبير :
لا يُمكن للتربية الإيمانية أن تتم بمراحلها المختلفة دون التعامل الصحيح مع القرآن، وهذا لن يحدث إلا إذا زادت الثقة فيه، كمصدر متفرد لتنوير العقول والقلوب، وتزكية النفوس ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا ﴾ [التغابن : 8] .
هذا هو التحدي الكبير الذي يواجهنا ..
فالحل بين أيدينا، ومع ذلك لن نقدر على الانتفاع به طالما ضعف إيماننا به وثقتنا فيه .
.. من هنا نقول أن نقطة البداية في طريق الانتفاع بالقرآن بعد الاستعانة الصادقة والمستمرة بالله عز وجل هي تنمية الثقة فيه والإيمان به حتى تزداد رغبتنا فيه، وإقبالنا الصحيح عليه .
وتنمية هذه الثقة تحتاج منَّا إلى القيام ببعض الأمور :
أولها : التعرف على أوصاف القرآن من القرآن :
فكلما تعرَّف المرء على فاعلية الدواء الذي سيستخدمه ؛ كلما ازداد ثقته فيه، فكما يقول الحارث المحاسبي :
لقد عظم الله عز وجل القرآن وسمَّاه : برهانًا، ونورًا، ورحمة، وموعظة، ومجيدًا، وبصائر، وهدى، وفرقانًا، وشفاء لما في الصدور، وذلك ليعظم قدره عند المؤمنين، فيقبلوا عليه منبهرين ومقِّدرين، ومتدبرين، فينالوا به شفاء قلوبهم .
وأخبرنا أنه أحسن من كل حديث ومن كل قصص ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر : 23].
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ [يوسف : 3] .
وأخبرنا أنه لا يفنى ولا ينفد ﴿ قلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف : 109] ([6]).
ثانيها : التعرف على النماذج القرآنية التي صنعها القرآن على مر العصور :
ولعل أهم قدوة في ذلك : رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام الذي قال عنهم الإمام القرافي :
لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته ([7]).
فعلينا أن نتعرف على علاقة الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وكيفية تعامله معه، ووصاياه نحوه .
وعلينا كذلك أن نتعرف على أثر القرآن على الصحابة، وكيفية تناولهم له، وتوجيهاتهم لمن بعده .
وهناك نماذج قرآنية في العصر الحديث تُعطينا الأمل في إمكانية تكرارها بيننا، فعلينا أن نتعرف عليها وعلى أثر القرآن فيها .
ومن هذه النماذج : محمد إقبال، وبديع الزمان النورسي، وحسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، وسيد قطب، وأبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، وفريد الأنصاري .
ثالثها : التعرف على أهم العوائق التي تحول بيننا وبين الانتفاع بالقرآن، وأهمها بإجمال :
الصورة الموروثة عنه، وطول إلف سماعه، ونسيان الهدف الذي من أجله نزل، والانشغال بفروع العلم والتبحر فيها، وغياب أثره في واقع الحياة، ورسوخ مفاهيم ساهمت في عدم الانتفاع به كالخوف من تدبره، وأهمية الإسراع في حفظه، والسعي وراء تحصيل الثواب فقط من تلاوته مما يؤدي إلى الإسراع في القراءة دون تفهُّم ولا تدبر، وغير ذلك من المفاهيم والممارسات التي تُشكل حاجزًا نفسيًّا يمنعنا من الانتفاع الحقيقي بالقرآن .
.. وقبل ذلك كله، فإن كيد الشيطان واجتهاده في الحيلولة بين وصول القرآن للعقل والقلب – لعِلمه بِعِظم أثره على دينهم ودنياهم وسلوكهم وأخلاقهم - من أهم عوائق الانتفاع بالقرآن .
التواصي والتعاهد :
من أخطر العوائق التي تحول بيننا وبين الممارسة العملية المستمرة لقراءة القرآن وتدبر معانيه والتأثر بها، هو تعودنا على طريقة شكلية لتلاوته ؛ تلك التي تُركز على قراءة أكبر قدر من آياته دون التفكر في معانيها، وبخاصة في شهر رمضان، بحثًا - فقط - عن الثواب المترتب على قراءتها .
لذلك من المتوقع ان يجد المرء صعوبة بالغة في الانتقال إلى الطريقة الصحيحة في قراءة القرآن، والتي تُحقق قوله تعالى : ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص : 29] .
نعم، قد ينجح في هذا الأمر يومًا أو بضعة أيام ولكنه سرعان ما يعود إلى الطريقة القديمة في القراءة ..
.. إن الذي تعوَّد أن يأكل بيده اليسرى ثلاثين عامًا يصعب عليه الأكل بيده اليمنى بمجرد أنه قد عرف أهمية ذلك، فالأمر يحتاج منه إلى عزم أكيد، وتوكل عظيم على الله عز وجل، وممارسة طويلة، ومن المتوقع أنه سيجد معاناة شديدة حتى يعتاد الأكل باليمنى .
ونفس الأمر بخصوص القرآن، فلقد اعتدنا قراءته والتعامل معه بشكل غير صحيح، ولكي يتم تعديل ذلك لابد من استعانة صادقة بالله، وعزم أكيد، وممارسة، ومتابعة، وتعاهد ممن سبقونا في هذا الأمر حتى نتعود على القراءة اليومية للقرآن، بتدبر وترتيل وصوت حزين، وتفاعل مع الآيات التي نتأثر بها .
[1] بلى الثوب : من كثرة استعماله حتى صار قديمًا لا قيمة له .
[2] التهافت : التساقط والتتابع .
[3] أخرجه الدارمي في سننه ( 2/531 برقم 3346 ) .
[4] البرهان في علوم القرآن للزركشي .
[5] فهم القرآن للمحاسبي .
[6] فهم القرآن للمحاسبي ص ( 282 )، دار الكندي .
[7] الفروق للقرافي (4 / 303) .