فصْل في ذِكْر جملة من الفوائد والأحكام المستنبطة
مِن قصَّة موسى مع الخضر عليهما السلام
• منها : جواز اتِّخاذ الخادم ولو كان حرًّا، ويؤيِّد ذلك أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يخدمه جماعةٌ من الصحابة كابنِ مسعود وأنس وأبي هريرة وغيرهم - رضي الله عنهم.
• ومنها : طواعية الخادم لمخدومِه، ما لم يكن في معصية الله؛ فإنَّه لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالِق.
• ومنها : مشروعية اتِّخاذ الرفيق في السَّفر، ويؤيِّد ذلك كراهة السَّفر وحيدًا؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو يعلم الناس مِنَ الوَحْدة ما أعلم، ما سار راكبٌ بليل وحْدَه))؛ رواه البخاري.
• ومنها : مشروعية الرِّحلة في طلَب العِلم، ويؤيِّده قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((طلبُ العلم فريضةٌ على كل مسلم))؛ رواه ابن عَدِيٍّ في "الكامل"، والبيهقي في "الشُّعَب" [صحيح الجامع].
• ومنها : أنَّ العلم لا يَستغني عنه الإنسان مهما بلَغ من المنزلة، حتى الأنبياء والرُّسل، فهو أشرفُ مطلوب من الدنيا، فتنبغي المداومة عليه، والسَّعي في تحصيلِه والاستزادة منه بشتَّى الوسائل الشرعية؛ ولهذا أمر الله نبيَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بطلبه وسؤالِه الزِّيادة منه دون ما سواه مِن أمور الدنيا، مع أنه أفضلُ الأنبياء، وأعلم الرُّسل، كما قال - تعالى -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
• ومنها : البَداءة بالأهمِّ فالأهم، فإنَّ طلب العلم والتزود منه مُقدَّم على الاشتغال بالدعوة والتفرُّغ للتعليم، ولهذا ترك موسى القعودَ عندَ بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفرَ للتزود من العلم، وفيه ردٌّ على الجماعات القائِمة على التزهيد في العِلم، والتصدُّر للدعوة على جهْل، لا سيَّما بأمر العقيدة والتوحيد، الذي هو أُسُّ الدعوة، وأصلُ الدِّين، وأساس الملَّة، قال - تعالى - لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
• ومنها : أنَّه لا يَنبغي للمرء أن يُعجَب بعِلمه، كأنْ يظن نفسه أعلمَ الناس، فإنَّ لله في خلقه شؤونًا، وفي الزوايا خبايَا.
• ومنها : أنَّ العالِم إذا كان ينقصُه شيء من العلوم، فينبغي له أن يكمل نفسَه، وذلك بطلبه ممَّن يجيده ويتقنه، كالفقيه الذي لا يحسن علمَ النحو، يطلبه مِن النحوي، والمُحدِّث الذي لا يتقن الفقه، يطلبه مِن الفقيه، وهكذا.
• ومنها : استحباب الحرْص على لقاءِ العلماء، وتجشم المشاقِّ في ذلك، فإنَّهم ورثة الأنبياء، ونجوم السماء.
• ومنها : أنَّ مَن كان مسافرًا لطلب عِلم أو جهاد ونحوه إذا اقتضتِ المصلحة الإخبار بمطلبه ووجهته، فإنَّه أكملُ من كتمه، فإنَّ في إظهاره عدَّةَ فوائد؛ كالاستعداد له، واتخاذ عدَّته، وإتيان الأمر على بصيرة، وإظهار الشوق إلى العبادة الجليلة؛ ليكونَ أُسوةً حسنةً لمَن بعده، كما قال موسى: ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60].
• ومنها : مشروعيةُ التزوُّد للسَّفَر، حيث أخذَا معهما ما يكون غَداءً لهما، والزاد زادان: زاد حِسي، وذلك بأخذ الطعام والشراب واللباس ونحوها، وزاد معنوي، وهو بالتَّقْوى، كما قال - تعالى -: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، وهو أعظمُ الزادين؛ إذ لا يضرُّ المرءَ أن يموت جائعًا أو عاريًا، ويضرُّه لو ماتَ كافرًا أو فاسقًا.
• ومنها : أنَّ الأخذ بالأسباب لا يُنافي التوكُّلَ على الله تعالى، بل هو مِن التوكل عليه؛ ولهذا قال - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15]، وقال: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]، خلافًا لما يظنُّه المتواكِلون من أنَّ الأخذ بالأسباب يقْدَح في التوكُّل على الله تعالى، وقد كان نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعظمَ المتوكِّلين على الله، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب؛ فلمَّا أراد الهجرةَ استعان بمشرِك، وفي حُروبه وقتاله يأخُذ معه العُدَّة والسلاح، حتى إنه في أُحُدٍ ظاهَر بين دِرعين، والأدلَّة على ذلك أكثر مِن أن تُحصر؛ ولهذا قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّلِه، لرَزَقكم كما يرزق الطيرَ؛ تَغْدُو خماصًا، وتروح بطانًا))؛ رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما [صحيح الجامع - الصحيحة 310]، فهي قد أخذتْ بالأسباب فتَغْدُو وتروح، ولا تجلسُ في بيتها تنتظر رزقها.
• ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمَه مِن مأكله ومَشربه، وتشريكه في الأكْل معه، حيث قال موسى لخادمه: ﴿ آتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ ولم يقل: (غدائي)، وهو مِن الآداب الحَسَنة، والأخلاق الكريمة التي دعَا إليها الإسلام، وحثَّ عليها النبي - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: ((إذا جاء خادمُ أحدِكم بطعامه فليقعدْه معه، أو ليناولْه منه، فإنَّه هو الذي وَلِيَ حَرَّه ودخانه))؛ رواه أحمد وأبو داود [صحيح الجامع - الصحيحة 1042].
• ومنها : جواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألَمُ مِن مرض ونحوه، إذا كان لمجرَّد الإخبار، لا للتشكِّي من الله على وجه الاعتراض على القضاءِ والقَدَر، ويؤيِّده قولُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إني أُوعَك كما يُوعَك رَجلانِ منكم))؛ رواه البخاري ومسلم، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بلْ أنا وَارأْساه))؛ رواه البخاري.
• ومنها : أن المتوجِّه إلى الله - تعالى - يُعان، فلا يُسرع إليه التعَب والنصب، بخلافِ ما لو أخطأ ذلك، فإنَّه يكون أسرعَ إلى النَّصَب؛ وذلك لأنَّ موسى لم يحسَّ بالنصب إلا حينما جاوز مجمعَ البحرين، كما ورد في الحديث.
وقريب مِن ذلك قول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وجُعِلت قُرَّةُ عيني في الصلاة))؛ رواه النسائي وغيره [صحيح الجامع]، ولمَّا نسِي بعضَ الصلاة اهتمَّ واغتمَّ من حيث لا يشعُر، كما في قصة ذي اليدين.
• ومنها : أنَّ من الآداب أن يُنْسَبَ النِّسيانُ ونحوُه من الأمور المكروهة إلى الشيطان، على وجهِ التسويل والتزيين، كما في قوله: ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ [الكهف: 63]، ونظيره قوله: ﴿ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]، وقوله: ﴿ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ [يوسف: 42]، وقوله: ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ﴾ [المجادلة: 19]، وإن كان الكلُّ بقضاء الله وقدَره.
• ومنها : أنَّ الشيطان إذا كان سببًا في النسيان، فإنَّ ذِكْر الله - تعالى - سببٌ في حصول التذكُّر، وقلَّة النِّسيان؛ لأنَّ الشيطان ينفر من ذِكْر الله تعالى، كقراءة القرآن، والاستعاذة؛ ولهذا قال - تعالى -: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: 24]، ومثلها قوله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴾ [الزخرف: 36]، وقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 5]؛ أي: الذي يُوسْوِس في صدورهم عندَ الغفلة عن ذِكْر الله، فإذا ذَكَروا الله رجَع القَهْقَرَى؛ ولهذا وصفه بـ(الخناس)؛ أي: الرَّجاع عند ذكر الله - جلَّ وعلا - ويؤكِّد ذلك قولُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اقرؤوا سورةَ البقرة في بيوتكم؛ فإنَّ الشيطان لا يدخُل بيتًا يُقرأ فيه سورة البقرة))؛ رواه الحاكم والبيهقي، وأخبرَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ ((مَن قرأ آية الكرسي عندَ النوم لم يزلْ عليه من الله حافِظ، ولم يقرَبْه شيطان حتى يُصبح))؛ رواه البخاري، وأنَّ ((مَن قرأ بالآيتين مِن آخِر سورة البقرة في ليلة، كفَتَاه))؛ متفق عليه، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الشيطانَ إذا سمِع النداء بالصلاةِ أحال - أي تحوَّل من موضعه - له ضُراط؛ حتى لا يسمعَ صوته، فإذا سكَتَ رجَع فوسوس، فإذا سمِع الإقامة ذهبَ؛ حتى لا يسمعَ صوته، فإذا سكتَ رجَع فوسوس))؛ رواه مسلم، وفي لفظ له: ((إنَّ الشيطان إذا سمِع النداء بالصلاة ذَهَب حتى يكونَ مكان الرَّوحاء)).
• ومنها : شَرَف الخضر، وعظيم منزلتِه عندَ الله تعالى؛ أولاً: لوصفه بالعبودية، وثانيًا: لإضافته إلى الربِّ - جلَّ جلالُه -حيث قال: ﴿ عَبْدًا مِن عِبَادِنَا ﴾، كقوله في النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23].
• ومنها : أنَّ العِلم علمان: مكتسب ولَدُنِّي، أمَّا المكتسب فهو العِلم الإنساني، وهو الذي يُحصِّله الإنسان بجده واجتهاده، إما من غيره، وذلك بالتعلُّم منه، وإمَّا من نفسه، وذلك بالتفكُّر والتدبُّر، فإنَّ نفس العاقل تجد مِن الفوائد بتفكُّر ساعة، ما لا تجدُه نفس الجاهل بتعلم سَنَة، وأما العِلم اللَّدُني فهو العِلم الربَّاني، وذلك العِلم الموهوب برحمة علاَّم الغيوب، يمنُّ الله به على مَن يشاء من عباده.
وكما قال - تعالى -: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾ [الكهف: 65]، كما قال في النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
• ومنها : أنَّ العلم النافِع هو العلم الذي يُرشِد إلى الخير والهداية والصلاح، دون غيرِه مِن العلوم، كما قال: ﴿ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾} [الكهف: 66]، وأعظمها وأجلها علم الكِتاب والسُّنة، عِلم الفِقه في الدِّين؛ ولهذا قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن يُرِدِ الله به خيرًا يُفقِّهه في الدِّين))؛ متفق عليه، وقال: ((خيرُكم مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه))؛ رواه البخاري.
• ومنها : تواضُع المتعلِّم لمَن يتعلم منه، ولو كان مَن يعلِّمُه أدْنَى مرتبةً منه، مع أنَّ التواضع مشروع على وجه العموم بين المسلمين؛ لقوله - تعالى -: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، وقوله: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
وقوله : ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215]، ولكنَّه في حقِّ المتعلِّم مع معلِّمه آكَد.
• ومنها : تأدُّب المتعلِّم مع معلِّمه في الخِطاب، وتلطفه معه في الكلام؛ لقول موسى للخضر: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾، حيث أخرَج الكلام مخرجَ العَرْض والمشاورة، وكأنَّه يقول له: هل تأذن لي أن أتَّبعك وأتعلم منك؟ بخلافِ أهل الكِبْر والغِلظة والجفاء، الذين لا يُظهرون للمعلِّم افتقارَهم إلى علمه ومتابعته، بل يَدَّعون أنهم يتعاونون معه، بل ربَّما ظن أحدهم أنه يُعلِّم معلمه، وهو في جهْل عريض، فإظهار الحاجة للمعلِّم، والرغبة في تعليمه مِن أنفع شيء للمتعلم.
• ومنها : أنه ينبغي للعالِم إذا رأى المتعلِّم لا يحتمل شيئًا مِن العلم أن يعتذرَ إليه في عدمِ تعليمه إيَّاه؛ لأنَّه قد يضرُّه أكثرَ مما ينفعه.
• ومنها : أنَّ مَن ليس عنده صَبْر على صُحبة العالِم وطلب العلم، وحُسن الثبات على ذلك، فليس بأهلٍ لتلقِّي العلم؛ لقول الخضر لموسى: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 67]، فمن لا صبرَ له لا ينال العِلم، ومَن تذرَّع بالصبر ولازَمَه أدْرَك به مطلوبه.
• ومنها : أنَّ مِن أعظم أسبابِ تحصيل الصبر إحاطتَه علمًا، وخِبرتَه بذلك الأمر الذي يريد الصبرَ عليه؛ لقوله: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68]، فمن لا عِلم له بما يُريد، أو لا خِبرة له بفائدتِه وثماره، لم يحقِّق سببَ الصبر، فلن يصبرَ عليه.
• ومنها : أنَّه ينبغي للمرءِ أن يُعلِّق أموره على مشيئةِ الله تعالى، كما قال: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ [الكهف: 69] فإنه إنْ فعَل ذلك حصَّل فوائد: أولها: تيسير الأمْر ببركةِ ذلك، وثانيها: حصولُ كمال التوكُّل بتفويضِ الأمر إلى الله تعالى، والتبرُّؤ مِن الحول والقوَّة، وثالثها: السلامة مِن إخلاف الوعْد، فيما لو قدَّر الله ألاَّ يتحقَّق هذا الأمر.
• ومنها : جواز اشتراط المتْبوع على التابِع ما يَرى فيه مصلحةً في اتِّباعه؛ حيث قال: ﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 70].
• ومنها : أنَّ الأصل في الشروط أنَّها ملزمة، وذلك ما لم تخالفِ الشرع؛ ويؤيِّده قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]، وهو يعمُّ جميعَ العقود، أصلاً ووصفًا؛ لقول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرم حلالاً))؛ رواه أبو داود وغيره [صحيح الجامع].
• ومنها : عدم المؤاخَذة بالنِّسيان؛ حيثُ قال: ﴿ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]، والنِّسيان في حقِّ الله - تعالى - يُعذَر به المرءُ مطلقًا، فلا إثمَ ولا ضمانَ فيه بحال، وفي حقِّ الغير يُعذر به في عدمِ الإثم، بخلاف ضمانِ الحقوق المتلفة نسيانًا، فإنها تضمن؛ لأنَّ حقوق الخلق مبنيَّة على المشاحَة، وحقوق الخالِق مبنيَّة على العفو والمسامَحة.
• ومنها : أنَّه يَنبغي للإنسان أن يأخُذَ من أخلاق الناس ما عفَا وسهُل، ولا يَنبغي له أن يشقَّ عليهم، فيكلفهم ما لا يطيقون؛ لأنَّ ذلك مدعاة للنفور منه والسآمة، ويؤيِّده قوله - تعالى -: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وقوله: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159].
• ومنها : إجراء أحكام الناس في الدُّنيا على الظاهر، سواء كان في الأموال أو الدماء أو غيرها، فإنَّ موسى أنكر على الخضر خرْقَ السفينة وقتْل الغلام؛ لأنَّ ظاهر هذه الأمور منكر، فلم يَسَعْ موسى - عليه السلام - الصبرُ عليها، والسكوت عنها؛ ولهذا لم يلتفتْ إلى الشرط العارض الذي اشترطَه على نفسه من الصبر وعدم الإنكار.
• ومنها : أنَّه (ليس الخبر كالمعاينة)، و(ما رَاءٍ كمن سَمِعَ)، فالتقرير النظري شيء، والواقِع العملي شيء آخر؛ ولهذا اشترط موسى - عليه السلام - على نفسِه الصبر وعدم عِصيان أيِّ أمر للخَضِر، فلمَّا رأى الأمر الواقِع، لم يصبر وخالَف ذلك الشرط، وقريب من ذلك، لما قال الله له: ﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 85]، فإنَّه لم يُلق الألواح ابتداءً مِن الغضَب، فلمَّا رأى قومه عيانًا لم يصبرْ على ذلك؛ بل ﴿ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ﴾ [الأعراف: 150].
• ومنها : أنَّ (الثلاث) لها اعتبار في التَّكْرار ونحوه، فيعذر في الأولى، وتُقام عليه الحُجَّة بالثانية، ولا يُعذر بالثالثة، ويؤيده أن الله جعل الطلاق مرتين، والفراق بعد الثالثة، فقال: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ﴾ [البقرة: 229]، ثم قال: ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾ [البقرة: 230]؛ أي: الثالثة ﴿ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [البقرة: 230]، وهكذا فارق الخضِر موسى بعد الثالثة، حيث قال: ﴿ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ [الكهف: 76]، ثم قال: ﴿ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾ [الكهف: 78].
• ومنها : أنَّ موافقةَ الصاحب لصاحبه - في غير معصية - سببٌ في بقاء الصُّحبة بينهما ولزومها، كما أنَّ عدم الموافقة سببٌ لقطع المرافقة، فبسببِ مخالفة موسى للخضر حصلتِ المفارقة.
• ومنها : أنه يَنبغي للمرء ألاَّ يبادر بإنكار ما لم يستحسنه، فلعلَّ فيه سرًّا لا يعرفه، وهذا أصلٌ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو التثبُّت والتحقُّق من كونه منكرًا، ومِن ذلك: لو رأى شخصًا يأكل في رمضان، فلا يُنكر عليه مباشرة، حتى يتحقَّقَ أنه ليس معذورًا؛ لأنَّه قد يكون مريضًا أو مسافرًا، والمرأة قد تكون حائضًا أو نفساء، ونحو ذلك.
• ومنها : أنَّ المخطئ يُنبَّه على خطئه، ويُعفَى عنه حتى يتحقَّق إصراره، ثم يؤدَّب بما يكون مناسبًا.
• ومنها : جوازُ ركوب البحر عندَ غلبة الظن في السلامة، ويحرُم عند غلبة الظن في الهلاك؛ لقوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].
• ومنها : جواز العمل في البحْر بالصيد، أو استخراج الجواهِر والحلية، كاللؤلؤ والياقوت والمرجان، أو نقْل الركَّاب والبضائع والمتاع مِن ساحل إلى آخَر.
• ومنها : أنَّ القتْل من كبائرِ الذنوب، ولهذا شدَّد موسى فيه فقال: ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، كيف لا؟ وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، وقال: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله مِن قتْل مؤمِن بغير حقٍّ))؛ رواه ابن ماجه [صحيح الجامع].
• ومنها : أنَّ القِصاص حقٌّ؛ ولهذا قال موسى: ﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ [الكهف: 74]، مما يدلُّ على أنَّ قتلها بالنفس معروف، وليس بمنكَر، كما دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ [المائدة: 32]، ومثله قوله - تعالى -: ﴿ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [المائدة: 45]، وقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ... ﴾ الآية [البقرة: 178]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَحلُّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأنِّي رسولُ الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفْس بالنفس، والتارك لدينه المفارِق للجماعة))؛ متفق عليه.
• ومنها : أنه يجوز للغريبِ أن يطلُبَ حقَّ الضيافة: من طعام وشراب ونحوه؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الضيافةُ ثلاثةُ أيام، فما كان وراءَ ذلك فهو صَدَقة))؛ رواه البخاري.
• ومنها : أنَّ صُنع الجميل وبذل المعروف، لا يُترَك ولو مع اللئام، فإنَّ ذلك حقٌّ لهم، وإن كانوا هم فرَّطوا فيما يجب عليهم، فيفعل معهم الجميل، وربَّما يحملهم ذلك على الخجل والاستحياء مِن فعلهم، ويدعوهم إلى إصلاح حالهم، كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيمَن أخطأ فتصدَّق على سارق ثم زانية ثم غنيٍّ، فحمِد الله، ثم أُتي فقيل له: ((أمَّا صدقتُك على سارق، فلعلَّه أن يستعفَّ عن سرقته، وأما الزانية، فلعلَّها أن تستعفَّ عن زناها، وأما الغنيُّ، فلعله أن يعتبرَ فينفق ممَّا أعطاه الله))؛ متفق عليه.
• ومنها : إثبات الإرادة للجماد، حيث قال: ﴿ جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ [الكهف: 77]، وليستِ الإرادة خاصَّةً بالحيوان أو بالإنسان، وشواهد ذلك كثيرةٌ من القرآن والسُّنة، فمن القرآن قوله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44]، وقوله: ﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 74]، وقوله: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، ومن السُّنَّة قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هذا أُحُدٌ جبلٌ يحبُّنا ونحبه))؛ متفق عليه، وفي صحيح مسلم قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إني لأعرف حجرًا كان يُسلِّم عليَّ بمكة))، وثبت في صحيح البخاري: (حَنينُ الجِذع الذي كان يخطُب عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جزعًا لفراقه).
فمَيلُ الجدار، وتسبيح الأشياء عمومًا، وخشية الحجارة مِن الله، وإباء وإشفاق السموات والأرض والجبال، ومحبَّة الجبل، وتسليم الحجر، وحَنين الجِذع - كل ذلك بإرادةٍ وإدراك يَعْلمه الله - تعالى - ولا نعلمه نحن، كما قال - تعالى -: ﴿ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44].
قال العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في "تفسيره" : وزَعْمُ من لا علم عنده أنَّ هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرْبُ أمثال - زعمٌ باطل؛ لأنَّ نصوص الكتاب والسُّنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضِح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه. اهـ.
• ومنها : جوازُ الهَجْر إذا كان فيه مصلحة، والأصل تحريمُ هجْر المسلم فيما زاد على ثلاث؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَحِلُّ لمسلم أن يَهجُرَ أخاه فوق ثلاث ليال))؛ متفق عليه.
• ومنها : فضل خِدمة الصالحين ومَن له صِلة بهم؛ وذلك لأنَّ الخضر علَّل إقامة جدارهما ثم استخراج الكَنْز بأنَّ أباهما كان صالحًا.
• ومنها : جواز أخْذ الأُجرة على العمل المباح، حيث عرض موسى على الخضر أخْذَ الأجرة على إصلاح الجدار.
• ومنها : أنَّ مِلْك السفينة أو الآلة أو السيَّارة أو الدكان لا يَمنع المرء مِن وصْف المسكنة، إذا كان لا يَجدُ ما يكفيه منه، فإنَّ الله - تعالى - وصَف أصحابَ السفينة بأنهم مساكين، مع أنهم يملكون سفينة! وعلى هذا فقد يستحقُّ الزكاةَ مَن عنده سيارة أو عمارة أو مصنَع، ونحو ذلك إذا لم يَجِدوا كفايتهم.
• ومنها : أنَّ الغصب حرام؛ لأنَّه مِن أخْذ أموال الناس بالباطل، وقد قال - تعالى -: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188]، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَنِ اقتطع قِيدَ شِبر من الأرض، طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرَضين))؛ متفق عليه، وفي روايةٍ عند مسلم: ((مَن اقتطع أرضًا ظالمًا، لقِي الله وهو عليه غضبان)).
• ومنها : أنه يجوز إتلافُ بعض مال الغير أو تَعييبه لوقاية باقيه، كإتلافِ بعضِ مال اليتيم لحِفْظ باقيه، وكتَعييبِ مال المودِع لبقائه، ومثله هنا ما حصَل مِن الخضر حيث خرَق سفينة المساكين؛ لتبقَى وتَسْلَم من غصبها كلها.
• ومنها : أنَّ المشروع عندَ تعارُض مفسدتين ارتكابُ الأخفِّ منهما؛ ولهذا لما دار الأمر بين أخْذ السفينة كاملاً، أو خرقها وسلامتها ثُم إصلاحها، فعل الأخف منهما، وهو الثاني.
• ومنها : ما فَطَر الله عليه أصفياءه - من الأنبياء والرسل ومَن اقتدى بهم - مِن نصح الخلْق، والشفقة عليهم، والرأفة بهم، فإنَّ الذي حمل موسى على المبادرة بالإنكار هو الالتهـابُ والحمية للحـق، وكمال النُّصح للخَلْق، ولهذا قال للخضر: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾ [الكهف: 71]، ولم يقل: (لتغرقنا) فنسِي نفسه، واشتغل بغيره، في هذه الحال التي يقول فيها كلُّ أحد: (نفْسي نفْسِي)، ولا يلوي على مالٍ ولا ولد، وهي حال الغَرَق.
• ومنها : حُسْن الأدب مع الله - تعالى - بحيث لا يُضاف إليه ما يُستهجن لفظُه، وإنْ كان الكل بتقديره وخَلْقه - جل وعلا - لقول الخضِر عن السفينة: ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ [الكهف: 79]، وقال عن الجدار: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ [الكهف: 82]، فأضاف بلوغ الأشد إليه تعالى، ولم يُضف إليه عيبَ السفينة، ونظيره قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 79، 80]، فنَسَب الخير إليه، ولم يقلْ في المرض: (وإذا أمْرضني)، ومثله قوله - تعالى -: عن الجن: ﴿ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ﴾ [الجن: 10] حيث نسبوا الرَّشَد إلى ربهم، ولم يُصرِّحوا بفاعل الشر، كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والخير بيديك، والشرُّ ليس إليك))؛ رواه مسلم.
• ومنها : أنَّ الله - تعالى - يحفظ الولد بسببِ صلاح والده؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]، ونظيره ما قيل في قوله - تعالى -: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9]، فجعل التقوى سببًا في عدم الخوف على الذريَّة مِن بعدُ؛ إشارة إلى أنَّ الله يحفظهم بها.
• ومنها : أنه يجب عمارةُ ما يُخشَى من سقوطه ضرر ومفسدة، ويحرم إهمالُه إلى أن يخرب.
• ومنها : جواز دفْن المال في الأرض ليُحفظ.
• ومنها : أنَّه لا يَنبغي للصاحب أن يفارق صاحبه ويترك صُحبتَه، حتى يبلغ منه العُذر، كما فعَل الخضر مع موسى.
• ومنها : إطلاق القرية على المدينة؛ لقوله - تعالى -: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾ [الكهف: 77]، ثم قوله: ﴿ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ [الكهف: 82]، وشواهد ذلك في القرآن كثيرة، كقوله - تعالى - عن قوم لوط: ﴿ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ﴾ [العنكبوت: 31]، ثم قوله: ﴿ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الحجر: 67]، ومثله قوله - تعالى -: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ [يوسف: 82]، ثم قوله: ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ [يوسف: 30]، ومنه سُمِّيت مكة أم القرى.
يتبع إن شاء الله