أثر العمل الصالح
في تفريج الكروب
-2-
أ.د. فالح بن محمد بن فالح الصغير
الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
3- القلق:
عرفه بعض علماء النفس: بأنه الشعور بالتخوف من احتمال وقوع شيء غامض مكروه ([1])، وهو كربة نفسية والمصاب بها لا يشعر بالأمان والاستقرار في نفسه ولا من حوله بل يلازمه الاضطراب والتوتر معظم أوقاته، وهذه الكربة عادة ما تنشأ من الوساوس التي يمليها الشيطان في النفس نتيجة رؤية مشهد غير مألوف أو حادث مرعب أو الاختلاط مع أناس تمردوا عن الأخلاقيات العامة كرفاق السوء من المقامرين والمدمنين للخمور والمخدرات وغيرها، أو تخوف من مستقبل مجهول، فينشأ لدى الإنسان نوعٌ من التناقض الداخلي ليتحول بعده إلى صراع في النفس بين ما كان عليه وبين ما يوسوس له الشيطان الذي آل على نفسه غواية الناس وإضلالهم وإدخالهم في شكوك ومزاحمات فكرية ونفسية، يقول الله تعالى على لسانه:}قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{[ص: 82، 83].
فإذا علم الإنسان تحقيقة الكربة وسببها، تمكن من علاجها والتخلص منها وقد بين الله تعالى أن من شأن الشيطان أن ينزغ في الإنسان ويوسوس له في أموره كلها، لاسيما الصالحة منها، ولكن الله تعالى وصف العلاج وبين الدواء لعباده لتجنب كربة القلق أو الخروج منه عندما يصاب به الإنسان، وكان هذا العلاج طاعته سبحانه وتعالى والقيام بالأعمال التي ترضيه عز وجل، والاستكثار من ذكره سبحانه وتعالى في السر والعلن، لقوله تعالى: }أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ{ [الرعد: 28].
وفي الامتثال بما أوجبه الله تعالى على الناس مخرج واسع من كربة القلق وآثاره، والتفكر العميق في مخلوقات الله وخلق السموات والأرض، والليل والنهار وفي كل آيات الله تعالى الموجودة في هذا الكون الواسع، فهذا التفكر من أسباب إزاحة هم كربة القلق عن الإنسان، ألم يكن خليل الله إبراهيم عليه السلام قبل النبوة يشتكي من حاله وحال من حوله ممن يعبدون الأصنام؟ فما كان منه إلا أن توجه بالتفكير والتأمل في ملكوت الله تعالى، فأشار إلى الكوكب ثم القمر، ثم الشمس لعلها تكون آلهة فلما رآها تأفل، تبرأ من فعل قومه، وأعلن عبوديته لله الأحد الذي يدير الكواكب والقمار والشموس والكون كله، فأزاح الله تعالى عنه غمته، ومنحه اليقين بدلاً من الشك والريبة، ثم كانت النبوة والرسالة يقول الله تعالى في ذلك: }وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ [الأنعام: 75-79].
وكانت وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام للمؤمن: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»([2]). حتى لا تقع في ظلمة الشك والقلق والاضطراب ويسير في نور اليقين والهداية.
4- الخوف:
عرفه بعض علماء النفس: بأنه قلق نفسي أو عصاب نفسي لا يخضع للعقل ويساور المرء بصورة جامحة من حيث كونه رهبة في النفس شاذة عن المألوف تصعب السيطرة عليها والتحكم بها([3]).
والخوف نوعان: إيجابي، وسلبي:
فأما الأول: الخوف من الله تعالى وعقابه وعذابه، وهو ضروري للإنسان ومطلوب منه لأنه يحقق العبودية لله تعالى، ويستقيم سلوك الإنسان به ويستقر المجتمع والأفراد، بل جعل الله من اتصف بهذا النوع من المؤمنين الصادقين، قال جل ذكره: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا{ [الأنفال: 2]، ومن هنا يجب على المسلم أن يجعل الخوف من الله تعالى جناحًا يطير به إلى الله تعالى في مسيرته في هذه الحياة والجناح الآخر رجاء حصول المطلوب في الدنيا والآخرة.
والنوع الآخر: سلبي وهو الخوف من غير الله أو الخوف المانع من فعل الطاعات أو الخوف الجالب لفعل المعاصي، كالخوف من السحرة والدجالين.
وهناك نوع ثالث: وهو الخوف الجبلي أو الطبعي الذي لا يترتب عليه فعل معصية أو ترك طاعة، كالخوف من الظلام لمن لم يتعود عليه، وهذا الخوف يكون إيجابيًا إذا منع من معصية أو حث على فعل طاعة ويكون سلبيًا إذا كان على العكس من ذلك.
***
ويعد الخوف في صورته السلبية كربة نفسية وبلاء من الله تعالى لقوله عز وجل: }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ{[البقرة: 155، 156].
ولهذا النوع من الخوف صور متعددة، كالخوف من الموت أو الخوف من الناس، أو الخوف من المرض، أو الخوف من الفقر، أو الخوف من المستقبل،وغيرها من الأسباب والمؤثرات التي تولد الخوف لدى الإنسان.
وللخروج من كربة الخوف وظلامه، يجب التوجه الصادق إلى الله، واليقين الكامل بأن الله تعالى فوق كل قوة، وفوق كل جبار، وأنه تعالى لا ينازعه على ملكه أحد، ولا يتحرك شيء في هذا الكون إلا بأمره وحكمه، فإذا وصل الإنسان إلى هذه القناعة وهذا الإيمان، فإنه سيتحرر من ربقة كربة الخوف وسطوته، وينطلق إلى عالم الشجاعة والمواجهة، فيعمل ويجتهد ويطور ويخترع، لأنه يستند في حياته إلى العزيز الجبار، يقول الله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ{[فصلت: 30].
وخير ما يقال في مواضع الخوف وعند نزوله هو: }حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: }حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد r حين قالوا: }إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{([4]).
فهذا هو رسول الأمة وقدوتها يهاجر في سبيل الله برفقة الصديق رضي الله عنه، ويختبئان في غار ثور، وتلاحقهم قريش وقد أعدوا لمن يأتي بالرسول الأمول والجاه، إلى أن يقفوا على باب الغار، فيقول الصديق: يا رسول الله، والله لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لرآنا، فيطمئنه الرسول عليه الصلاة والسلام ويرده إلى حقيقة الأمر ويقول: «يا أبا بكر، ما بالك باثنين الله ثالثهما؟».
ثم إن هذا الدين قد عالج بعض صور هذه الكربة من البداية حتى لا يقع فيها الإنسان من خلال الشيطان الرجيم، فالخوف من الموت مثلاً قد بين الله تعالى حقيقة الموت التي لا مفر منها وقطع الأمل في تحاشيها، ولكنه عز وجل أخفى توقيتها عن الناس، وأن الإنسان مهما حاول الفرار منه فإنه لا يخرج من سلطان الله وملكه، وأنه آيب إليه، يقول عز وجل: }قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ{ [الجمعة: 8].
وأما الخوف من الناس فإن رب العزة قد أشار إلى أن الخوف الحقيقي يجب أن يكون من الله لا من غيره يقول تعالى: }فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ{[المائدة: 44].
وكذا أنكر الإسلام الخوف من الفقر لأن الخالق والرازق هو الله، ورزق العباد ليس بيد العباد وإنما بيد خالق العباد، قال جل ثناؤه: }وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ{ [الإسراء: 31]، وقال أيضًا: }وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ{[الذاريات: 22].
فتقرر بهذا أن العمل الصالح يورث قوة التعلق بالله سبحانه وهذه القوة تزيل الخوف من تلك الأمور المورثة للأمراض النفسية والكربات والقلق ولخوف المذموم.