أعرف زائر المساء من خفقان القلب، حين يأتي إلي هادئا، يبعد طنين الانتظار عن شرفة البيت ويحرس غفوتي التي تخطفها في غيابه رغبة البكاء ورعشة الحمى..
يأتيني خفيفا ناعما، يعطيني عمرا لترميم الخرائب التي خلفت ألما يفجع وشعورا خارج منطق الأشياء وكمائن الشوق وبهجة الاحتراق..
تبدأ الحياة بين يديه.. يأخذني إلى نفق في المجهول لا يتسع إليه قلبي الحائر، أمر أمام حلم هارب، أمشي في زمن بلا ذاكرة ولا حزن ولا فرح ولا هواجس، أسير إلى حيث يأخذني ولا أبالي، أحملق في السماء البعيدة والأيام الطويلة التي لا تنتهي..
أتبع ظل العاشقين وأحمله معي، غارقة فيه وخائفة منه في هذا الصمت الزاحف بين زمنين، تسبق خطاه خطاي، أعبئ اسمه في قلب امرأة مسافرة على ريح تخفي عواطفها في حقيبة السفر حين تتملص من المعاني بين الدفاتر، وحين تفر الاعترافات من سرير المساء، وتغلق دائرة الحزن..
أرنو صوب قصائده وأصاب كما اللغة بدوار البحر، أحاول فهم القصيدة، أصدق تاريخ الولادة وأقبض على الجمل المستعارة وأضع ثقبا يتسلل منه الضوء كلما عسعس الليل، هذا الليل الكثيف البياض.. لا يتركني أحيك قصتي ولا أنا أترك للفراغ مكانا للحلم..
أرحل في خلاياه وأمشي في اتجاه الموج الأزرق، أمتلأ بالهواء الشهي وأنشد أغنيتي الأولى بين الصحراء والبحر، أترك الأرض تكمل بهدوء دورتها وأستحضر ما علق من نوتات وأدع اللحن يتمدد على جسدها..
يسحبني من بقاياي، نطيل المساء على الجسر، يرمي بحبات القمح لتلتقطها في السماء العصافير، يوقف صهيل الكلام، وأوقن أنه يحميني من خيباتي الأخيرة ومن أسئلة الوجود..
إنه نشيد السماء ونشيد البحر والأزرق الذي يمشي بينهما، يخرج من ضلعي ويواصل رقصته على أوتار القلب وظلال المدى، يمزق سرب الكلام عند أعتاب المدينة الواقفة، ويأتيني كالسيف يقطع كل البدايات.. وكل النهايات..