ما لي وللدنيا...للشيخ...حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
الحرم النبوي : ما لي وللدنيا
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
الحمد لله المتفرد بالبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجبروت والكبرياء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله إمام الأتقياء، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأصفياء، أما بعد فيا أيها المسلمون:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فمن اتقاه وقاه وأسعده ولا أشقاه، معاشر المسلمين:
قول الله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم خيرُ ما تسمعه الآذان، وإن من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم- من الوصايا العظيمة التي وجهها لأمته، ما رواه عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أوعابر سبيل" وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري، قال أهل العلم: هذا الحديث أصلٌ في أن الواجب على المسلم ألا يركن إلى هذه الدنيا وأن لا يجعلها غايته ومنتهى طلبه، يقول النووي رحمه الله في معنى الحديث: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه. ويقول بعض أهل العلم شارحاً هذا الحديث: الدنيا دار مرورٍ وجسر عبورٍ فينبغي للمؤمن أن يجعل جل همه الاشتغال بالعبادة والطاعة، وألا يشتغل بما لا يعنيه من الأمل الطويل والحرص الكثير على الدنيا وتكثيرها، حتى كأنه خُلق لأجلها، واللهث وراء جمعها. يقول ربنا جل وعلا حاكياً عن مؤمن آل فرعون (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)- [غافر/39]
معاشر المسلمين: إن هذا الحديث الجليل يبين حقيقةً غائبةً عن كثيرٍ ممن انهمكوا في جمع الدنيا وحطامها، فأصبحت معيارهم عليها يوالون، ومن أجلها يعادون، حديثٌ عظيمٌ يوضح للمغترين بهذه الدنيا المعرضين عن تحصيل أسباب الفلاح في الدار الأخرى، الغافلين عن الاستعدادا لدار القرار، أنهم بهذه الحال على خطرٍ عظيم ومسلك وخيم، يقول ربنا جل وعلا في من قدم الدنيا على الآخرة وأضاع حقوق الله جل وعلا، اغتراراً بهذه الدنيا الفانية (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)- [يونس/7+8] ويقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: "ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكبٍ قال في ظل شجرةٍ ثم راح وتركها" يقول أحد السلف: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يُفِق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين، فاجعل أيها المسلم همك الأعظم التزود للآخرة، والعمل بما يقربك من نيل رضوان الله جل وعلا، والبعد عن سخطه (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)- [البقرة/197]
معاشر المسلمين: ومن مشكاة النبوة تنطلق وصية ابن عمر راوي هذا الحديث، وصيةٌ عظيمةٌ لكل مسلم، أن يكون في كل وقتٍ من أوقاته، وكل حينٍ من أحواله، مستعداً للآخرة، محافظاً على أوامر ربه، متمسكاً بهدي نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، لا يؤخر فرضاً مفروضاً، ولا يؤجل حقاً مستحقاً لله أو لخلقه، لا يلهيه طول العمل عن التزود بالطاعات، ولا يسوف في الأوبة والتوبة، بل دأبه المسارعة إلى الخيرات، والمنافسة في نيل الصالحات، والمسابقة إلى القربات (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)- [آل عمران/133]
يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقراً موسيا، أو غنىً مطغيا، أو مرضاً مفسدا، أو هرماً مفندا، أو موتاً مجهزا، أو الدجال، فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" حديث صحيح.
كانت امرأة متعبدة بمكة، إذا أمست قالت يا نفس الليلة ليلتك، لا ليلة لك غيرها، فاجتهدت في الطاعات، فإذا أصبحت قالت مثل ذلك.
معاشر المؤمنين: وصية ابن عمر هذه تذكر العاقل بأن يغتنم الأعمال الصالحة في حال الصحة، وأن ينفق ساعاته في ما يعود عليه نفعه، قبل أن يحول بينه وبينها السقم، وفي حال الحياة قبل أن يحول بينه وبينها الموت.
في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس، الصحة والفراغ" وكان سلف هذه الأمة، يتواعظون في أول الإسلام بموعظة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" حديثٌ إسناده حسن
فالواجب على المسلم المبادرة إلى امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، وألا يشغله أمر الدنيا عن التزود بالأعمال الصالحات، يقول ربنا جل وعلا: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)- [الزمر/45+55] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته؟ قال: "إن كان محسناً ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ألا يكون استعتب" رواه الترمذي.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول وأشتغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.