أحبَّته كما لم تحبّ أنثى رجلاً؛ أو هكذا ظنّت، وأحبّها، استلطفها، أعجب بها؛ أو هكذا خُيِّلَ إليه...
كانت كلّ ليلة عندما ينشرُ الظلام ستاره، ويطلّ القمر خجولاً على الأرض، تُسرعُ إلى موعدها معه، تتجمل كأحلى ما تكون، مع علمها بأنه لن يراها أبداً، تتطيب مدركة أن عطرها لن يصلَ إليه، تحاولُ جاهدة أن تُسكت وجيب خفقات القلب، لئلا يسمعها أهل الدّار، فتُثير داخلهم الشّكوك، ويحوموا حولها بريبة، كنسور تبحثُ عن فريسة، وهي أبداً لا تحبّ أن تكون فريسة، تبغض فكرة الضحية، تشمئزّ من مجرد خاطر الاغتيال وإن كان معنوياً، ولذلك فقد كانت تحتاط كثيراً قبل أن تلتقي به...
هو كان أيضاً يتأهب لذلك اللقاء، يعدّ كوباً كبيراً من الشّاي كثيرِ السّكّر، لا يُحركه إلا عندما يضيء اسمها على شاشته، تلمعُ ابتسامة صغيرة تحت شاربه الخفيف، وتبرقُ عيناه لرؤيتها...
هو يدركُ بأنه لن يراها، لكن اسمها وحده يكفيه، يترنّم به في أحلام يقظته، يردده بطرب كلما كان وحده... ليلى... ليلى... ليلى... وكأنه يعزف على نغمه سيمفونية من نوع متفرد...
تعارفا في أحد المنتديات الثّقافية، أبهرتها شخصيته، وأدهشته رقّتها ونعومتها، لم يكن التواصل بينهما إلا عبر كلمات، كلمات تروح، كلمات تجئ، كلمات تُصبح، كلمات تمسي، كلمات تؤثّر، تثير مشاعر حزن أو فرح، بؤس أو تفاؤل، جنون أو مشاعر طفولة يحن إليها كل إنسان...
لم تتعمّد يوماً أن تجذبه إليها، ولم يقصد هو أن يلفت نظرها، لكنهما وجدا نفسيهما منجذبين، وقد بدأ الأمر برسالة إعجاب رصينة، أتبعت بجواب مدروس، سألته عن ثقافته، وحدثتها عن هموم الدراسة، أخبرها عن جامعته، وعن التزامه، عن حبه للإسلام، ورغبته في خدمته عبر المنتديات، قال لها بأن له صوت جميل جميل في الترتيل، وتمنت عليه أن تستمع إلى قرآن بصوت عذب يسعد روحها المتعبة، ويؤنس غربتها بين أهلها...
ذات مساء فاجأها بمقطع صوتي مُسجل بصوته، يحتوي ترتيله العذب الشجي، طارت بهديته فرحاً، واستمعت للمقطع عشرات المرات، مئات المرات، أرسلت تخبره عن مدى دهشتها بما سمعت، وبأنها بكت كثيراً لعذوبة صوته...
رسالتها تركت في نفسه أجمل الأثر، فقد جعلته إمام الأئمة، وتقي الأتقياء، فأرسل إليها ليتواعدا في اجتماع يومي خاص في غرفة صوتية، وكان هناك سيّد الإبداع في الاستحواذ على قلبها، تارة يُنشد لها الأناشيد، وتارة يرتّل الآيات، وإن فاض من الوقت القليل يجلس يحدثها عن بعض مواقفه الطريفة، فتضحك، ويضحك أكثر لوقع ضحكتها العذبة على قلبه...
مرّت الأيام تمد لهما حبائل الياسمين فيتعلقان بها، وينسجان معاً أرجوحة الحب على ضوء القمر الخجول، في الجلسات الهادئة، حيث الليل والنجوم وهما فقط لا غير...
قالت له بخجل العذارى؛ وماذا بعد؟!
وأجاب بجرأة الفرسان؛ آتي إليكِ لأخطبكِ بعد التخرج...
قالتها بوجل، وأجابها مطمئناً:
طال الانتظار ولم يعد يظهر كعادته كلّ مساء، بدا ضجراً متثاقلاً متشاغلاً بأمور كثيرة، شعرت للحظة بأنها قد تفقده، أحست به كالحلم الجميل ينسلّ من بين يديها، لكن كان عليها أن تواجهه، أن تواجه نفسها، وتواجه كل من حدثتهم عنه، كل من باحت لهم بقصتها التي تشبه الخيال، قالت له فلنفترق، وأجابها مشفقاً:
- إذاً ليكن اللقاء بيننا مدى الحياة..
هزّ رأسه موافقاً وقال لها:
- وحانت اللحظة المنتظرة، وقدمت إليه تتهادى تحمل صينية القهوة الحلوة، كما يحب، وكوب ماء بقطرات من ماء الزهر، كما يفضّل، ناولته الفنجان بيديها، فنظر إليها، وانسكب الفنجان واصطدم بالأرض وتحطم...
انشغلت هي بتنظيف آثار القهوة، وانشغل هو بتجفيف حبّات العرق على جبينه..
بدت كفراشة سعيدة قد خرجت من شرنقتها لتصافح الربيع، وبدا هو كشجرة خريف فقدت آخر أوراقها اليابسة، وانصرف، ولم يتطرق وأمه لموضوع الخطبة...
- ياللسماء! لابد من خطب قد أصابه، لابد من عين قد ألمّت به...
نظرت إلى السماء تستجدي جواباً من القمر، فكانت تلك الليلة هي ليلة المحاق..
أرسلت إليه تبحث عنه، راسلته، سألت عنه، حاولت كثيراً أن تتصل به، لكنه اختفى وكأنه لم يكن يوماً هناك، ولا كان القمر ولا المساء...
كانت رغم ذلك تدخل كل ليلة لتلك الغرفة الصوتية المهجورة، يُخيّل لها كلما طرقت بأصابعها على كلمة المرور أنها تسمع صوت أشباح، وصفير ريح، وعواء ذئاب، وضحكة ساخرة كبيرة...