مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ !!
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا} البخاري
قَوْلُهُ : (بَابُ إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ) كَذَا قَيَّدَهُ فِي التَّرْجَمَةِ ،
وَلَيْسَ التَّقْيِيدُ فِي الْخَبَرِ ، لَكِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ ،
وَوَقَعَ مَنْصُوصًا فِي رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْآتِي ذِكْرُهَا بِلَفْظِ : بِغَيْرِ حَقٍّ ،
وَفِيمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِلَفْظِ :
{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدَةً بِغَيْرِ حِلِّهَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}
قَوْلُهُ : (مُجَاهِدٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ ابْنِ الْعَاصِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
"مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا" : بِكَسْرِ الْهَاءِ ،
مَنْ عَاهَدَ الْإِمَامَ عَلَى تَرْكِ الْحَرْبِ ذِمِّيًّا أَوْ غَيْرَهُ ، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مَنْ عَاهَدَهُ الْإِمَامُ .
قَالَ الْقَاضِي : يُرِيدُ بِالْمُعَاهِدِ مَنْ كَانَ لَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَهْدٌ شَرْعِيٌّ ، سَوَاءٌ كَانَ بِعَقْدِ جِزْيَةٍ أَوْ هُدْنَةٍ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ أَمَانٍ مِنْ مُسْلِمٍ
وَقَوْلُهُ : "لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ" ، فِيهِ رِوَايَاتٌ ثَلَاثٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ رَاحَ يَرَاحُ ، وَبِكَسْرِهِ مِنْ رَاحَ يَرِيحُ ، وَبِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَرَاحَ يُرِيحُ .
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْيَاءِ هُوَ أَجْوَدُ ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ ثُمَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَجِدْ رِيحَهَا ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُهَا أَصْلًا ، بَلْ أَوَّلُ مَا يَجِدُهَا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يَقْتَرِفُوا الْكَبَائِرَ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَعَاضَدَتْ بِهِ الدَّلَائِلُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ ،
عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَ مُوَحِّدًا مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ ، وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْجَنَّةِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ التَّغْلِيظُ : "وَإِنَّ رِيحَهَا يُوجَدُ" :
جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ تُوجَدُ "مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا" . أَيْ عَامًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ .
قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعِينَ عَامًا ، وَفِي الْأُخْرَى مِائَةَ عَامٍ ، وَفِي الْفِرْدَوْسِ أَلْفُ عَامٍ ،
وَجَمَعَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْمَالِ ، وَتَفَاوُتِ الدَّرَجَاتِ ، فَيُدْرِكُهَا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ ، وَمَنْ شَاءَ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ .
قُلْتُ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ طُولَ الْمَسَافَةِ لَا تَحْدِيدَهَا . ( رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ) . وَكَذَا أَحْمَدُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَفِي رِوَايَةٍ : "مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا فِي غَيْرِ كُنْهِهِ بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ النُّونِ أَيْ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ قَتْلُهُ ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"
أَيْ مَنَعَهُ مِنْ دُخُولِهَا مُدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ . رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالْحَاكِمُ ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ بِالتَّاءِ ،
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا : "مَنْ قَذَفَ ذِمِّيًّا حُدَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ" .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : خُصُومَةُ الذِّمِّيِّ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فتح الباري شرح صحيح البخاري
ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح