أحب أن أسمعه من غيري
القرآن كلامُ الله، أنزلَه على قلبِ رسول الله؛ ليقرأَه على الناس على مُكْثٍ؛ ﴿ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾ [الإسراء: 106].
ترتوي به قلوبُ الحائرين فتهدي، وتنتعشُ به عقولُ الصالحين فتتألَّق، وتكتحلُ به عيونُ الذاكرين فتبصر الحقَّ المبين، وتستمع إليه آذانُ المخلصين فتخشع لربِّها، وتعمل لدينها، وتؤسِّس لآخِرتها!
القرآن الكريم كلام الله تعالى:
إما منطوق؛ ﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ ﴾ [المزمل: 20].
وإمَّا مسموع؛ ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].
يقول صاحبُ "الظلال": "فالاستماعُ إلى هذا القرآن والإنصات له حيثما قُرِئ هو الألْيَقُ بجلال هذا القوْل، وبجلال قائلِه - سبحانه - وإذا قال اللهُ أفلا يستمع الناس وينصتون؟ ثم رجاء الرحمة لهم؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، ما الذي يخصِّصه بالصلاة؟ وحيثما قُرِئ القرآنُ واسْتَمعَتْ له النفْسُ وأنصتتْ، كان ذلك أرْجى لأنْ تَعِي وتتأثَّرَ وتستجيبَ; فكان ذلك أرْجى أن تُرْحَمَ في الدنيا والآخرة جميعًا".
لسماعِ القرآن سلطان للقلوب، وسِحْرٌ للنفوس، وإرشادٌ للعقول، ولذَّة للأرواح، لا تُغَالب ولا تُقَاوم؛ حتى حذَّر الكفَّار أتباعَهم من سماع القرآن؛ لِمَا يعلمون من صِدْقِه وسلطانه على العقول والقلوب؛ حيث حَكَى القرآنُ عنهم فقال: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾[فصلت: 26].
وقالوا للطفيل بن عمرو الدوسي: لا تسمعْ للقرآن، ولا تسمعْ لمحمد؛ حتى وضَعَ الرجلُ في أُذُنَيه كُرْسُف – قُطن - فأبى الله إلا أنْ يُسْمِعَه القرآن، قال الطفيل: فو الله ما زالوا بي حتى أجمعتُ ألاَّ أسمع منه شيئًا، ولا أكلِّمه حتى حشوتُ في أُذني حين غدوتُ إلى المسجد كُرْسُفًا؛ فَرَقًا من أن يبلغَني شيءٌ من قوله وأنا لا أريدُ أن أسمعَه، قال: فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ يصلي عند الكعبة، قال: فقمْتُ منه قريبًا، فأبى الله إلا أنْ يُسْمِعَني بعضَ قوله، قال: فسمعتُ كلامًا حسنًا، قال: فقلتُ في نفسي: واثُكْل أُمِّي، والله إني لرجلٌ لبيبٌ شاعرٌ، ما يَخْفَى عليّ الحَسَنُ من القبيح، فما يمنعني أنْ أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإنْ كان الذي يأتي به حسنًا قَبِلْتُه، وإن كان قبيحًا تركْتُه، قال: فمكثتُ حتى انصرفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته فاتَّبَعْته، حتى إذا دَخَلَ بيتَه دخلتُ عليه فقلتُ: يا محمد، إنَّ قومَك قالوا لي كذا وكذا - للذي قالوا - فوالله ما برحوا يخوفونني أمرَك حتى سددتُ أُذُني بكُرْسُف؛ لئلا أسمعَ قولَك، ثم أبى الله إلا أنْ يُسْمعَني قولك، فسمعتُه قولاً حسنًا، فاعْرِضْ عليّ أمرَك، قال: فعرضَ عليّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلامَ، وتلا عليّ القرآنَ، فلا والله ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسنَ منه ولا أمرًا أعدلَ منه، قال: فأسلمتُ، وشَهِدْتُ شهادة الحقِّ، وقلتُ: يا نبيَّ الله، إني امرئ مُطَاعٌ في قَومي، وأنا راجعٌ إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادْعُ الله أن يجعلَ لي آية تكون لي عونًا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال: ((اللهم اجعلْ له آية))، قال: فخرجتُ إلى قومي، حتى إذا كنتُ بثنِيَّة تطلعني على الحاضر، وَقَعَ نورٌ بين عيني مثل المصباح، فقلتُ: اللهم في غير وجْهي؛ إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلَة وقعتْ في وجْهي لفراق دينهم، قال: فتحوَّل، فوقَعَ في رأْس سوطي، قال: فجعلَ الحاضرون يتراءَون ذلك النورَ في سوطي كالقنديل المعلَّق وأنا أهبط إليهم من الثَّنِيَّة،قال: حتى جِئْتُهم، فأصبحتُ فيهم...!
جاء الرجلُ مُسلمًا طائعًا لسماعه القرآنَ؛ ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[التوبة: 32]،
﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
لذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخيَّر لتلاوته أندى صوتًا، وأجمل تلاوة، وكان يحبُّ أن يسمعَه من غيره؛ زيادة في التفكُّر والتدبُّر، ووصولاً إلى الخشوع والخضوع؛ عن عبدالله بن مسعود قال : "قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: ((اقرأْ عليّ))، قلتُ: أَقْرَأُ عليك وعليك أُنْزل؟ قال: ((إني أحبُّ أنْ أسمعَه من غيري))، فقرأتُ سورة النساء، حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41].
قال: ((حَسْبُك الآن))، فالْتَفَتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان"؛ متفق عليه.
فما بال المؤمنين لا يسمعون، وإذا سمعوا لا يتدبَّرون، وإذا تدبَّروا لا يعملون، وإذا عملوا لا يُخْلِصون - إلاَّ مَن رَحِمَ ربي وعَصَمَ - وهم أتْقَى عباده وأحْرصهم على الامْتِثال لكتابه، والعيش في رحابه، والتقرُّب إلى جنابه، للسماع مذاقٌ لا يعرفه إلا مَن ذَاقَه؛ لأنَّ الصمتَ وسكون الجوارح أدْعَى لعمل القلب، وتزكية النفس، وتطهير الصدر، وتربية الجوارح.
وهنا أهيبُ بالأئمة والدُّعاة، بالوعَّاظ والحُفَّاظ، بالمتصدرين للإمامة والقراءة - أن يجعلوا شعارَهم: "إني أحبُّ أنْ أسمعَه مِن غيري" أُسْوة بحبيبهم - صلى الله عليه وسلم - ويتخيَّروا الأندى صوتًا فيقدِّموه - بما لا يخلُّ بالقراءة - ويعلِّموه ويصقلوه؛ ففي ذلك إيثارٌ جميلٌ، وأجْرٌ عظيم، ونفْعٌ - بإذن الله - جليل للمؤمنين والمؤمنات، المستمعين والمستمعات، خاصة في شهر رمضان الكريم، ذلك حتى تلين القلوب القاسية، وتستقيم النفوس المتمرِّدة، وتقشعرَّ الجلودُ الجامدة؛﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].
لا يكن الداعية الإمام أو الإمام الداعية مُنفِّرًا لقلوب المسلمين دون أن يدري، أو قاطعًا طريقَ الإسلام دون أن يشعرَ، ليس ذلك من فقه الإسلام، وليس ذلك من أخلاق المسلمين، أنت أيُّها الداعية الحبيب تحمل أعظمَ رسالة وُجِدتْ على الأرض؛ ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
إنها الهداية؛ ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
إنها الشفاء والرحمة؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[يونس: 57].
﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [فصلت: 44].
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].
إنها البرهان والنور؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 174].
نعم تحملُ أعظمَ رسالة؛ فلتكنْ عظيمًا على قدْرها، ولتكنْ عظيمًا في عَرْضها؛ كما يعرضُ التاجر الناجح بِضَاعته، أنت تتاجِرُ مع الخالق الرزَّاق، أنت ترجو تجارة لن تبور؛﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].
فلتُخْلِصْ لله تجارتَك، ولتُحْسِنْ للمسلمين عَرْضَ بضاعتك، ولتعلو كما علتْ أُمَّتُك؛ فأنت تنتمي لأعظم أُمَّة، أُمَّة الإسلام التي هي أُمة الخيريَّة؛﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].
وأُمَّة الأفضليَّة؛ ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
وأُمَّة الفوقيَّة؛ ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 141].
وأُمَّة الوسطيَّة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143].
تذكَّر عندما جاء حكيمُ العرب - كما وصفوه - يساوِم النبي - صلى الله عليه وسلم - مُقَلِّبًا له الأمورَ على كلِّ وجوه الاسترضاء التي يقْبلها البشرُ، وهنا يقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أفرغتَ أبا الوليد؟))، يقول: نعم، فيقول له: ((فاسْمعْ منِّي))، ثم تلا عليه سورة فُصِّلت، حتى وصل إلى قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13].
فوضَعَ يدَه على فم النبي - صلى الله عليه وسلم - وناشَدَه الله والرَّحِم ألا يُكْمِل، وعاد لقومه بوجْهٍ غير الذي ذهَبَ به، ولَمَّا سُئِل قال: "سمعتُ منه كلامًا ليس من كلام الجنِّ ولا من كلام الإنس، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثْمِر، وإن أسفلَه لمغْدِق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه".
وتذكَّر قول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لعبدالله بن زيد، عندما جاء بصيغة الأذان، رغم أنها مشروعُه ورؤيته وعملُه، إلاَّ أنَّ النبي قال له: ((اذْهب إلى بلال؛ فإنَّه أندى منك صوتًا))، فصدع بها بلال بن رباح - رضي الله عنهم - وأرضاهم، حتى اقترنَ اسمُه بالأذان، وكان مؤذِّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وتذكَّر قولَ الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 29].
يقول صاحب "الظلال" في هذه الآية: "وهلة المفاجأة بهذا القرآن للجنِّ مفاجأة أطارتْ تماسُكَهم، وزلزلتْ قلوبَهم، وهزَّتْ مشاعرَهم، وأطلقتْ في كيانهم دفْعَة عنيفة من التأثُّر امتلأ بها كيانُهم كلُّه وفاضَ، فانطلقوا إلى قومهم بنفوس محتشدة مملوءة فائضة بما لا تملك له دفعًا، ولا تملك عليه صبرًا، قبل أن تفيضَه على الآخرين في هذا الأسلوب المتدفِّق النابض بالحرارة والانفعال، وبالجِدِّ والاحتفال؛ ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا ﴾ [الجن: 1]، فأوَّل ما بدا لهم منه أنه عجبٌ غير مألوف، وأنه يثيرُ الدهشة في القلوب، وهذه صفة القرآن عند مَن يتلقَّاه بحسٍّ واعٍ، وقلبٍ مفتوح، ومشاعر مُرْهَفَة، وذَوق ذوَّاق، عجبٌ ذو سلطان مُتَسلِّط، وذو جاذبية غلاَّبة، وذو إيقاع يلمسُ المشاعر، ويهزُّ أوتارَ القلوب، وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن، مسحورين متأثِّرين أشدَّ التأثُّر، منفعلين أشدَّ الانفعال، لا يملكون أنفسهم من الهزَّة التي ترجُّ كيانَهم رجًّا، ثم يعرفون الحقَّ فيستجيبون له مذعنين مُعلنين هذا؛ أخرجَ الترمذي بإسناده عن جابر - رضي الله عنه - قال: خَرَجَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن إلى آخرها فسكتوا، فقال: ((لقد قرأتُها على الجنِّ فكانوا أحسنَ ردودًا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله - تعالى -: ﴿ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾، قالوا: لا بشيءٍ من نعمك ربَّنا نكذِّبُ، فلك الحمدُ))،...
وهذه كتلك تصوِّر الأثرَ الذي انطبعَ في قلوبهم من الإنصات للقرآن، فقد استمعوا صامتين مُنْتبهين حتى النهاية، فلَمَّا انتهتِ التلاوة، لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومِهم وقد حملتْ نفوسُهم ومشاعرُهم منه ما لا تطيق السكوتَ عليه أو التلكُّؤ في إبلاغه والإنذار به، وهي حالة مَن امْتلأ حِسُّه بشيءٍ جديد، وحفلتْ مشاعرُه بمؤثِّر قاهر غلاَّب يدفعُه دفعًا إلى الحركة به، والاحتفال بشأنه، وإبلاغه للآخرين في جِدٍّ واهتمامٍ".
هذه الحقيقة التي يدركُها الجنُّ، ويغفلُ عنها البشرُ، ولا يَخْفَى ما في هذه اللفْتَة من إيحاء عميقٍ مُتفِق مع ما جاء في السورة، كذلك ما يردُ في كلام الجنِّ من الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح ودلالته على قُدرة الله الظاهرة في خَلْق السماوات والأرض الشاهدة بقُدرته على الإحياء والبعث.
وتأمَّل حديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يسأل فيه ربَّه مستغيثًا بأسمائه الحُسْنى وصفاته العُلى: ((اللهمَّ إني أسالك بكلِّ اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسَك أو أنزلتَه في كتابك، أو علَّمْتَه أحدًا من خَلْقك أو استأثرْتَ به في عِلْم الغيب عندك - أن تجعلَ القرآن العظيم ربيعَ قلوبنا، ونورَ أبصارنا، وجلاءَ همومِنا وأحزاننا)).
فمن المؤكد أن تستشعرَ في آهات دعاء النبي أنَّ القرآن الكريم هو نورُ الأبصار، وربيع النفوس، وكاشفُ الهَمِّ والغمِّ، وشفاءٌ لِمَا في الصدور، ورحمة للمؤمنين، وفرقان للحيارَى، وإرشاد للمهتدين، وإنذارٌ للأحياء، ويحقُّ الله به القولَ على الكافرين.
وللتعبُّد بالقرآن - قراءةً وسماعًا وتدبُّرًا - نورٌ وحلاوة، ويُعَدُّ سماعُ القرآن الكريم عبادة صامتة يغفلُ عنها الكثيرون؛ يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].
ويقول ابن بطَّال تعليقًا على هذا الحديث، كما وردَ في "فتح الباري": "يُحْتملُ أن يكون الرسولُ قد أحبَّ أن يسمعَه من غيره؛ ليكونَ عرْضًا، أو أن يكونَ لكي يتدبرَه ويتفهَّمَه، وذلك أنَّ المستمع أقوى على التدبُّر ونفسُه أنشطُ من القارئ؛ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها".
ويبدو أن عدمَ التدبُّر من صفات أعمى القلب؛ فلقد نَعَى الله - تعالى - على الكفَّار عدمَ استجابتهم للسماع، فقال: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
يجبُ أن نسمعَ القرآن ممن نستشعرُ منه القرآن؛ فعن طاوس مرسلا قال: "سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أحسن صوتًا للقرآن، وأحْسن قراءة؟ قال: ((مَن إذا سمعتَه، رأيتَ أنه يخْشى الله))؛
ولكن قد يتساءلُ سائلٌ: كيف أسمع القرآن وأنا في ضِيق؟
أولاً: إذا كانت هذه العبادة راحة للأبدان والعقول، وإشباعًا للنفوس؛ أفلا تستحقُّ أن تضحي من أجْلها؟ أما إذا ذُقْتَ لذَّتها، فستعرف أنت الجواب.
ثانيًا: السماع من أيْسر العبادات؛ فتستطيع أن تسمعَ في البيت، وفي العمل، وفي السيارة، وعلى كلِّ الأحوال، ما دُمْتَ حاضرَ القلب كيفما تكون؛ قائمًا أو جالسًا أو مُضجِعًا.
وتميلُ النفوس إلى سماع القراءة بالترنُّم أكثر مِن مَيْلها لِمَن لا يترنَّم؛ لأن للتطريب تأثيرًا في رِقَّة القلب وإجراء الدمع.
ويقول الإمام النووي - رحمه الله -: "البكاء عند قراءة القرآن صفةُ العارفين وشعارُ الصالحين".
فإذا سَئِمْتَ من الناس جفاءَها، ومن الدنيا نكدَها، ومِن الحياة هَمَّها وحزنها، وتراكمتْ عليك الهمومُ والأحزان، لا تتردَّدْ في أن تستعيدَ البهْجة؛ فالطريق إلى السعادة يبدأ بكلام الله!!
إذا ذَبُلَتْ رياحين القلب، وخفتتْ إشراقاتُ النفْس، وتعطَّلتْ إبداعات العقل، فحتمًا سيتُوقُ الإنسان إلى العودة إلى الحياة ليحيا من جديد، بنور جديد، وبرُوح جديدة، يبصرُ بها طريقَ الحقِّ؛ فتفوح الرياحين في قلبه، ويشرق الأملُ في نفسه، ويتألَّق الإبداع في عقْله، ومِن ثَمَّ يدخلُ في حياة الروح وروح الحياة؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52].
اللهمَّ فقِّهْنا في ديننا، واجعلِ القرآن ربيعَ قلوبنا، وشفاءَ صدورنا، وذهابَ هَمِّنا وغَمِّنا، اللهمَّ اجْعلْنا مع النبيين والصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، وحُسُنَ أولئك رفيقًا، اللهمَّ ارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل، ولا تجعلِ الدنيا أكبرَ هَمِّنا ولا مَبْلَغَ عِلْمنا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين.