مدينة رشيد....
القاهرة ـ صالح الفتياني، تصوير ـ سعيد عبدالحميد
في التاسع والعشرين من عام 1807 كان الموعد مع البطولة لأهل هذه المدينة، محافظها على بك السلانكلي، يشرف بنفسه على الاجراءات التنظيمية، المراكب الصغيرة تقلع متجهة الى الضفة الشرقية للنيل حتى لا يستخدمها الانجليز، الأهالي يتحصنون داخل منازلهم وبحيث بدت المدينة وكأنها خالية تماما من كل بنى البشر بل وحتى الأجناس الأخرى.. جنود الحامية الانجليزية يتمخطرون داخل الشوارع والأزقة فرحين ومعتقدين أن الأهالي قد فروا تاركين مدينتهم وانهم بذلك حققوا نصرا دون أية مجهود أو تضحيات.. فجأة ينطلق صوت المؤذن من فوق أحد المساجد الله أكبر فتموج الأرض من تحتهم تحت وقع الضربات التي تنهال عليهم من العصى والحجارة وكل الأدوات البدائية المتاحة التي استعان بها أهل المدينة، في حين شاركت النساء والأطفال في المعركة بصب الزيت المغلي من الشرفات فوق رئوس المعتدين الانجليز، فقتل 170 منهم وجرح 250 آخرون وأسر 120 جنديا وفر الآخرون والأهالي يطارودونهم، ومنذ ذلك اليوم صارت مدينة رشيد التي تقع شمالا على البحر الأبيض المتوسط رمزا للبطولة لأنها قهرت الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
وكما كان لرشيد موقعها في عالم البطولة والزود عن الديار كان لها حظا أوفر مع التاريخ فالمدينة لها مكانتها التاريخية ومنذ العصور القديمة فالعلماء يرون أن أصل تسمية رشيد يعود الى الكلمة المصرية القديمة (رخيت) بمعنى (عامة الناس) واشتهرت في ذلك الوقت بصناعة العجلات الحربية ونجحت في عهد الملك منبتاح ابن الملك رمسيس الثاني في صد هجمات اللبيبن وشعوب البحر، كما أقام الملك بسماتيك الأول سنة 633ق.م معسكرا على ساحل المدينة لحماية شواطئ البلاد، وفي العصر القبطي أطلق عليها (رشيت) حتى كان الفتح العربي على يد عمرو بن العاص والذي دخلها بعد أن فتح مدينة الاسكندرية عام 21 هـ وكان حاكم رشيد القبطي يسمى قزماس وهو الذي عقد صلحا مع عمرو وأدى الجزية للمسلمين وبقيت الكنائس في المدينة لمن بقى على دينه، وقد استطاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى المدينة فعمروها وأقاموا البيوت وبنوا المساجد وأطلقوا عليها رشيد والتي مازالت تعرف بها حتى الآن.
مجموعة فريدة
وتجتمع في المدينة مجموعة فريدة من الأبنية الاسلامية فمعروف انها ثاني المدن بعد القاهرة من حيث حجم الآثار الاسلامية يقول محمد عبدالعزيز مدير منطقة آثار رشيد: المدينة تضم اثنين وعشرون منزلا اثريا وعشرة مساجد وحماما وطاحونة وبوابة وقلعة وبقايا سور قديم، وهذه العمائر ترجع الى العصر العثماني فيما عدا قلعة قايتباي وبقايا سور رشيد والبوابة فيرجعون الى العصر المملوكي، وقد بنيت هذه المنازل من الطوبة الرشيدي السوداء، والمنازل تعكس ماكان يتميز به أهل المدينة في ذلك (عصر العثمانيين والأتراك) من التقدم في العمارة والنجارة والبناء، كما تعكس الطابع الاسلامي الذي كان موجودا في ذلك الوقت بما تحويه من مشربيات وصالات استقبال ونقوش كوفيه واشغال صوفية أو قباب مبنية بالطوب، وكما أعدت هذه المنازل لكي تكون سكنا وتحفا فنية أعدت كذلك لكي تكون حصونا حربية عند الحاجة في زمن الحروب.
كما تمتاز هذه المنازل الأثرية في رشيد بوجود دواليب حائطية من الخشب يعلو بعضها خورنقات، ولهذه الدواليب مصاريع (ضلف) مصنوعة من الخشب المحلى بالأرابيسك والأطباق النجمية، كما حليت جدران بعض القاعات بالقيشاني وأسطح المنازل بها ميل يتجه نحو فتحات الصرف التي تجدها من الخارج عبارة عن قنوات للصرف على الشارع لتصريف المياه التي تتجمع فوقه، والأثاث في العصر العثماني الذي شهد بناء هذه المنازل كان بسيطا ولا يشغل مساحة كبيرة من الحجرات، فالدواليب حائطية والأرائك والأسرة عبارة عن جلسات مبنية من الحوائط كانت تفرش بالحاشيات المنجدة، وتغطى بأجمل أنواع المنسوجات المزركشة والأكلمة الجميلة الصنع.
ومن أهم المنازل الأثرية الموجودة في المدينة منزل الأمصيلي وعنه ي قول محمد عبدالعزيز:
المنزل تم بناؤه عام 1808 ميلادية على يد عثمان أغا الامصيلي وكان جنديا بالجيش العثماني ويتكون من ثلاثة أدوار الاراضي به حجرة الاستقبال وبها قواطيع من الخشب تتخللها أعمدة رخامية، ويوجد بالدور الأرضي المخزن والحظيرة المخصصة لركوب (الأغا) والصهريج الذي تخزن به المياه ودورات المياه، أما الدور الأول فتوجد به حجرات للرجال ودواليب حائطية مطعمة بالعاج والصدف مكونة أشكالا نجمية، فضلا عن المشربيات من الخرط الدقيق ويعلوها مناور، أما منزل حسيبة غزال فقد بنى هو الآخر عام 1808 وهو ملحق بمنزل الأمصيلي و كان مخصصا للخدم ويتكون من ثلاثة أدوار، الأرضي وبه مخزن من الداخل وتعلوه حجرة بسلم من المخزن وحجرة الصهريج والدور الأول به حجرات بها شبابيك خرط والدور الثاني به مشربيات وحجرة ملحقة بها مخزن.
حجرة الأغاني
في حين يعود تاريخ بناء منزل الميزوني الى عام 1740 على يد عبدالرحمن البواب الميزوني جد محمد الميزوني والد زبيدة البواب زوجة فرانسوا جاك مينو القائد الثالث للحملة الفرنسية على مصر والذي أشهر اسلامه بعد ذلك وسمى نفسه عبدالله مينو وقد خلد هذه القصة الشاعر الراحل على الجارم ابن رشيد في رائعته الروائية (غادة رشيد ) والمنزل يتكون من أربعة أدوار، الدور الأرضي به شادر وحجرة الصهريج والدور الأول للرجال وبه حجرات لها شبابيك من المصبعات (التقاطعات) الحديدية، أما الدور الثاني فهو مخصص للحريم وبه مشربيات بارزة من الخرط الميموني، والدور الثالث به حجرات لها شبابيك من الخرط وحجرة الأغاني وبها دواليب خشبية ومنور مربع وبه كذلك الحمام الذي يشبه حمامات المنازل الاخرى برشيد، وعلى الواجهة القبلية للمنزل حجرة بالسطح بها المدخنة التي تبدأ من الدور الأول وتنتهي أعلى السطح، وكان هذا المنزل سكنا لزبيدة البواب قبل أن تتزوج الجنرال الفرنسي مينو.
أما منزل عصفور فقد بنى عام 1754 ميلادية ويتكون من ثلاثة أدوار الأرضي به شادر يتكون من مخازن الغلال وحجرات للاستراحة وقاعة للمناسبات، وبه حجرة الصهريج التي لها شباك من النحاس يعلوه لوحة رخامية عليها اسم المنشأ وهو (ابراهيم بلطيش) باللغة التركية، وال دور الأول به حجرات لها شبابيك من المصبعات الحديدية تعلوها مناور من الخشب الخرط، والدور الثاني به حجرات لها شبابيك ومشربيات من الخشب الخرط والدور الاخير صيفي وبه نوافذ بارزة بحوالي نصف متر، كما يتكون منزل القناديلي الذي بنى في النصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي من ثلاثة أدوار، الدور الأرضي به شادر ومخزن أسقفه تتكون من عقود متقاطعة محمولة على عمود جرانيتي والدور الأول للرجال ويتكون من حجرات شبابيك تعلوها مناور والحجرة الرئيسية مكونة من دواليب من الخشب المزخرف بالأرابيسك وتعلوها خورنقات (تجاويف في الجدران أو الدواليب توضع بها الأمتعة) وبها محراب من القيشاني الأصفر والأخضر.
وهناك منزل عرب كلي وله مكانة متميزة بين البيوت الأثرية في رشيد وعنه يقول مدير منطقة آثار رشيد: مكانة المنزل تأتي بسبب اختياره بعد ذلك ليكون متحفا يعكس بطولات وتاريخ المدينة وقد بناه حين عرب كلي محافظ رشيد في النصف الأول من القرن الثاني الهجري (الثامن عشر الميلادي) ويتكون من أربعة أدوار، في الدور الأرضي شادر وله أسقف عبارة عن قبوات متقاطعة فيما عدا حجرة الصهريج فسقفها خشبي، والدور الأول للرجال وبه حجرات لها شبابيك من المصبعات الحديدية، تعلوها مناور من الخرط المعقلي، والثاني به شبابيك من الخرط، ويتصدر الصالة ايوان خشبي وبسقفها منور وبه حمام مسقوف بقبه ضحلة مفرغة وبها زجاج، كما يوجد به حوض رخامي، وبجوار الحمام توجد دكة للاستراحة وباب يؤدي الى حجرة النوم، والدور الثاني صيفي وبه حجرة صغيرة ودورة مياه، أما منزل ثابت فقد بني في النصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري أيضا ويتكون من ثلاثة أدوار، الدور الأول للرجال وبه حجرات من المصبعات الحديدية، والثاني مخصص للنساء وبه مشربيات خشبية.
ذكرى عزيزة
ومن المنازل الى المساجد الأثرية ومن أهمها مسجد زغلول وعنه يقول محمد عبدالعزيز: انه أقدم مساجد المدينة ويحمل ذكرى عزيزة على قلوب الرشايدة وكل المصريين وهي الانتصار على حملة فريزر، فمن على مئذنته انطلقت صحية (الله أكبر) ايذانا ببدء الهجوم على عساكر الحملة الانجليزية وقد كان هذا المسجد بمثابة الأزهر حيث كان يتوافد عليه طلاب العلم وكان لكل شيخ عامود به، والمشكلة أنه قد تعرض مؤخرا لحالة من التدهور ويتم حاليا عمل الترميمات اللازمة لكي يعود المسجد الى سابق عهده، أما مسجد على المحلي فقد بنى عام 1721 ميلادية، ويقع في وسط المدينة ويقام على 99 عمودا مختلفة الأشكال، وله ستة أبواب مزخرفة واجهاتها بالطوب المنحوت وتختلف كل واجهة عن الأخرى، ويتوسطه صحن وتقع الميضأة غرب الجامع وتتكون من مظلة مرفوعة على 12 عمودا والمسجد ينسب الى على المحلى الذي توفى عام 901هـ بمدينة رشيد ودفن بالمسجد شمال المحراب الا أن عمدة رشيد ويدعى على بك طبق قام في عام 1283 ميلادية بنقلة الى مكانه الحالي وسط المسجد.
وهناك أيضا مسجد العباسي ويعد من أجمل مساجدها ويقع على شاطئ النيل من الناحية القبلية منها وله واجهات تشبه واجهات المنازل الأثرية نظرا لأنه مزين بزخارف جميلة مصنوعة من الطوب المنحوت وهي موجودة بالجزء العلوي ويعتبر تصميم مدخل المسجد نموذجا لمداخل المساجد في القرنين السابع والثامن عشر الميلادي وله قبة مضلعة من الخارج تعتبر من اجمل قباب رشيد. والمسجد بناه محمد بك طبوزادة سنة 1809م.
وتحيط برشيد عدة قلاع أقدمها قلعة قايتباي التى عرفها المؤرخون الأجانب باسم قلعة جوليان، والقلعة انشأها السلطان الأشرف قايتباي سنة 1479 ميلادية لتدافع عن هذه الثغر والمدخل الهام لمصر، وهي مستطيلة الشكل ويوجد في نواحيها الأربع أبراج دائرية وبأسوارها مزاغل، وبوحوش القلعة الداخلي بقايا مبنى مستطيل كان يحتوى على حجرات للجند ومخازن ومسجد وصهريج مياه، وهي تختلف في تصميمها عن قلعة قايتباي الموجودة في الاسكندرية، وقد تعرضت لاصلاحات وتغييرات واضافات منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وفي اغسطس 1799 عثر (بوشار) أحد ضباط الحملة الفرنسية على الحجر المشهور بحجر رشيد تحت أنقاض هذه القلعة والذي تم من خلاله فك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة وبالتالي الكشف عن كل التاريخ المصري وهو ماأدى الى أن ذاعت شهرة المدينة أكثر وأكثر.
يقول محمد عبدالعزيز: حجر رشيد عبارة عن حجر من البازلت الأسود يعود تاريخه الى عام 196 ق.م ومسجل عليه محضر مبايعة الكهنة للملك بطليموس الخامس والاعتراف به ملكا على البلاد، وهذا الحجر مكتوب عليه بثلاث لغات هي الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة عليه، وقد عكف العالم الفرنسي شامبليون فترة طويلة على دراسة هذه النقوش الموجودة على الحجر حتى توصل الى فك رموز اللغة المصرية القديمة وقد نقل الحجر الى لندن طبقا لشروط معاهدة 1801 بين الانجليز والفرنسيين، وهو الآن يعد واحدا من أهم القطع الاثرية المعروضة بالمتحف البريطاني بلندن وهناك محاولات مصرية تجرى لاسترداده ولكنها لم تنجح حتى الآن.
ومن الأماكن الأثرية الشهيرة أيضا بالمدينة حمام عزوز والذي بنيى في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي ويتكون من مجموعتين، مجموعة الاستقبال يجلس المعلم صاحب الحمام فيها وتتوسطها نافورة من الرخام وكان في سقفها شخشيخة من الخشب، أما المجموعة الثانية فأرضيتها من الرخام وتتوسطها نافورة رخامية حولها حجرات للاستحمام، جميع الأسقف بهذا القسم عبارة عن قباب يتخللها أطباق زجاجية للاضاءة، وملحق بالحمام منزل صغير لسكن صاحبه والعاملين فيه، وفي الخلف يوجد الحوش والساقية القديمة التي كانت تمده بالمياه، وتوجد بالمدينة طاحونة أثرية شهيرة هي طاحونة أبو شاهين بنيت في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي وقد بناها عثمان اغا الطوبحي وهي خاصة بطحن الغلال وكانت تدار بالخيل، والطاحونة مزدوجة ذات مدارين بالحجارة والتروس الخشبية وملحق بها حظيرة للمواشي وحجرة لمبيت الطحان، كما يوجد بها عقود من الطوب المنحوت.
بيت الهدايا
أما متحف رشيد القومي والذي أقيم في منزل عرب كل فيتكون من 4 طوابق الأرضي مخصص كبيت للهدايا والطابقان الثاني والثالث أعدا للعرض المتحفي وبهما نحو 334 قلطعة أثرية ابرزها القطع الرخامية وحامل الاناء والأزيار لتنقية المياه، وشواهد القبور التي تعود الى العصر العباسي، ومجموعة من التماثيل التي تحكى بسالة أهل رشيد في الزود عن مدينتهم.
وكانت الآثار الاسلامية المختلقة من منازل ومساجد وقلاع والموجودة في المدينة قد عانت وحتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي من حالة من التدهور بسبب الاهمال حتى تم وضع خطة لانقاذها من خلال عمليات الترميم التي إنتهت في عام 1985 بافتتاح الرئيس مبارك لها ومازالت حتى الآن تجري عمليات المتابعة والترميم لهذه الآثار حيث تقوم منطقة اثار رشيد حاليا بتنفيذ خطة لترميم عدد تسعة منازل أثرية من ضمن الـ 22 منزلا وهي منزل القناديلي والامصيلي وطبق وحسيبة غزال وعصفور وثابت، وبسيوني وكوهية، ويشمل الترميم جميع العناصر المعمارية لهذه المنازل من جدران وأسقف وأرضيات وشبابيك ومشربيات ودواليب، كما يتم حاليا اعادة بناء مسجد زغلول نظرا لقيمته الاثرية بعد موافقة اللجنة الدائمة للاثار الاسلامية والقبطية على ذلك بداية العام الحالي.
بقى أن نقول أن المدينة استأثرت باهتمام الكثيرين وخاصة بطولة ابنائها في التصدي للحملة الانجليزية عليها فهي ملحمة بطولية استلهمها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في عمل روائي في بدايات حياته حمل عنوان (في سبيل الحرية) ويدور حول بطولات أهلها، كما شغف بها العرب الذين رافقوا عمرو بن العاص عند فتحه لها وقيل أن البعض منهم وكانوا من صحابة رسول الله قد استطابوا العيش فيها وعندما ماتوا دفنوا فيها، كما كانت المدينة مصدرا لالهام الأدباء والشعراء والمبدعين ومن هنا ظهرت رائعة الشاعر على الجارم ابن المدينة (غادة رشيد) والتي تحكي قصة زواج القائد الفرنسي مينو بحسناء رشيدية تدعى زبيدة البواب.
مدخل أحد المنازل الأثرية
أحد المنازل الأثرية بالمدينة
متحف رشيد وقطع منحوتة تصوير عائلة رشيدية وقت تناول الطعام
أحد المنازل الأثرية في رشيد