التفث: هو الوسخ والدرَن. قال نفطويه: سألت أعرابيًا: ما معنى قوله:
﴿ ثم ليقضوا تفثهم ﴾؟ فقال: ما أفسّرُ القرآن ولكن نقول للرجل: ما أتفثك، أي: ما أدرَنَك.
قال العلماء: التَّفَث يشمل كل ما يَحْرم على المُحْرِم من قصِّ الأظفار، والأخذ من الشارب وشعر الإبط.
وأضاف بعض العلماء: ورمي الجمار والحلق، والتقصير، والذبح.
والمعنى: ثم ليكمل الحجاج ما بقي عليهم من النُّسُك، بإحلالهم وخروجهم من إحرامهم، وذلك بإزالة ما تراكم مِن الوَسَخ والأدران في أبدانهم، والتي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الإحرام، حيث يمكث الحاجُّ أيام الحج مُحْرِمًا لا يتطيب، ولا يأخذ شيئًا من شعره أو أظافره، فإذا ما أنهى أعمال الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث، ويزيل هذه الأدران بالتحلُّل من الإحرام، وفِعْل ما كان محظورًا عليه.
وفي الآية دلالة على أن الحلق وقص الأظافر ونحوه ينبغي أن يكون بعد النحر، كما قال تعالى: ﴿
ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾[البقرة: 196] لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من حلق قبل أن ينحر فلا شيء عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال:
((اذبح ولا حرج)) رواه البخاري ومسلم.
﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾:
والنذر: أن يوجب العبد على نفسه أمرًا ليس بواجب تعظيما وقُربة لله تعالى.
والمعنى: وليوفوا بما أوجبوه على أنفسهم من الحج والعمرة والهدايا.
قال سفيان في قوله: ﴿
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ أي: نذر الحج، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه: الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وعرفة، والمزدلفة، ورمي الجمار، على ما أمروا به.
وآخر المناسك هو الطواف بالبيت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت.
وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خُفف عن المرأة الحائض. ولذلك قال تعالى: ﴿
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ والعتيق القديم، والمراد هنا: الكعبة، أفضل المساجد على الإطلاق، وأحب البقاع إلى الله.
وهو قديم؛ لأنه أول بيت وُضِع للناس: ﴿
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96]، والقِدَم هنا صفة مدح؛ لأنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به.
والعتيق أيضاً الشيء الجميل الحسن، وكذلك هو -البيت- غالٍ ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا لا نراه في غيره من آيات بينات: ﴿
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [آل عمران: 97].
إضافة إلى ما تميز به من فضل الطواف به وما يترتب عليه من الأجور ومغفرة الذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة)) رواه أحمد وصححه الألباني.
والعتيق كذلك المحرر غير المملوك للناس، المعتوق من السيطرة والعبودية لغير الله، كما وأنه لا مُلْك لأحد عليه، لأن الله حفظه من اعتداءِ وتسلط الجبابرة.
قال مجاهد: لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك.
ألاَ ترى إلى قصة الفيل، وما فعله الله بأبرهة حين أراد هَدْم البيت؟ حتى الفيل الذي كان يتقدَّم هذا الجيش أدرك أن هذا اعتداءٌ على بيت الله، فتراجع عن البيت، وأخذ يتوجَّه إلى كل الجهات التي أرادوا إلا ناحية الكعبة.
ويُقال: إن رجلًا تقدّم إلى الفيل، وقال في أذنه: ابْرُك محمود - وهو اسم الفيل - وارجع راشدًا فإنك ببلد الله الحرام.
قال الشاعر:
حُبِسَ الفيل بالمُغَمَّسِ حَتَّى
ظَلَّ يعوي كأنه مَعْقُور
ثم أنزل الله عليهم الطير الأبابيل التي أخذت ترميهم بالحجارة حتى الموت.
إنه البيت العتيق الذي أعفاه الله فلم يغلب عليه جبار، وأعفاه الله من البلى والدثور، فما يزال معمورًا منذ إبراهيم عليه السلام ولن يزال.
وفي الآية تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون.
وفي الآية أمر بالطواف، خصوصا بعد الأمر بالمناسك عموما، لفضله، وشرفه، ولكونه المقصود، وما قبله وسائل إليه،وهو المسمّى بطواف الإفاضة، أو طواف الحج، أو طواف الزيارة.
وهناك فائدة أخرى وهي: أن الطواف مشروع في كل وقت، وسواء كان تابعا لنسك، أم مستقلا بنفسه.
﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]:
﴿ ذَلِكَ ﴾ أي: ذلك الذي ذكر الله لكم من تلكم الأحكام، وما أمر به سبحانه من الطاعات في أداء المناسك، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها وتكريمها، هي خير للعبد عند بارئه جلَّ وعز. فكما أنه الواحد في خلقه وتربيته لا شريك له في ذلك، فهو الواحد في ألوهيته، لا شريك له، ولهذا قال: ﴿ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾فكيف تعدِلون عن عبادته إلى عبادة يغره بعد هذا البيان ببيان استحقاقه تعالى للإخلاص وحده إلى عبادة الأوثان، التي لا تدبر شيئا، وليس لها من الأمر شيء، وأين ذهبت عقولكم!؟ .
ثم جاء الاستثناء بقوله: ﴿ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ والمراد: إلا ما يتلى عليكم في القرآن تحريمه، وقد حرمه الله -جل وعلا- على عباده، ومنعهم منه، رحمة بهم وتزكية لهم، مثل قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ﴾ [المائدة: 3].
ومنه أيضا ما يتلى تحريمه في القرآن واستثني، كقوله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 145].
وجيء بالمضارع في قوله: ﴿ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾؛ ليشمل ما نزل من القرآن في ذلك مما سبق وتلي، وكذلك ليشمل ما لم يزل يتلى، ويشمل أيضا ما عسى أن يَنزل من بعد.
وفي الآية إشارة لطيفة، وذلك أنه لما ذكر آنفًا بهيمة الأنعام وتعظيم حرمات الله أعقب ذلك بإبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من الأنعام مثل البَحيرة، والسائبة ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 103].
واجتناب الكذب على الله بقولهم لبعض المحرمات (هذا حلال) مثل الدم وما أهلّ لغير الله به، وقولهم (هذا حرام)، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾[النحل: 116].
والأمر باجتناب الأوثان مستعمل في طلب الدوام كما في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [النساء: 136]. أي: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه داوموا على ما أنتم عليه من التصديق الجازم بالله تعالى وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن طاعتهما، وبالقرآن الذي نزله عليه، وبجميع الكتب التي أنزلها الله على الرسل. ومن يكفر بالله تعالى، وملائكته المكرمين، وكتبه التي أنزلها لهداية خلقه، ورسله الذين اصطفاهم لتبليغ رسالته، واليوم الآخر الذي يقوم الناس فيه بعد موتهم للعرض والحساب، فقد خرج من الدين، وبَعُدَ بعدًا كبيرًا عن طريق الحق.
والرّجس: حقيقته الخبث والقذارة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].
فأكرم به من دين طهارة ونقاء؛ فحيثما توجه أهله، فعليهم دوما تجنب كل خبيث من المسكرات ومراهنات القمار مما يصدٌّ عن ذكر الله، وأنصاب الحجارة المعظَّمة، والقِداح التي يستقسم بها الكفار على الأشياء، إقداما أو إحجاما عنها، فكل ذلك إثمٌ مِن تزيين الشيطان، فابتعدوا عن هذه الآثام – أيها المؤمنون - لعلكم تفوزون بالجنة.
بل وأمر الدين بتجنب أهل الشرك والإعراض عنهم احتقارًا لهم، فإنهم خبثاء البواطن، ومكانهم الذي يأوون إليه في الآخرة نار جهنم; جزاء بما كانوا يكسبون من الآثام والخطايا ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 95].
ووصف الأوثان بالرجس المعنوي لِكون اعتقاد إلهيتها في النفوس بمنزلة تعلّق الخبث بالأجساد.
والمراد: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ ﴾أي: الخبث القذر من الأنداد، التي جعلتموها آلهة مع الله، فإنها أكبر أنواع الرجس، والرجْس: النجاسة الغليظة المتغلغلة في نفس الشيء لا يمكن أنْ تفصلها عنه، فهي ليست سطحية فيه يمكن إزالتها.
﴿ وَاجْتَنِبُواْ ﴾ لا تدل على الامتناع فقط، إنما على مجرد الاقتراب من دواعي هذه المعصية؛ لأنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها لا بُدَّ أن تداعبك وتشغل خاطرك، ومَنْ حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه، اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُرِّمَتْ عليكم، ولأن حدود الله نوعان:
• الأوامر وما أحلَّ الله فتلك يقف عندها العبد ولا يتعداها إلى غيرها: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229].
• أمَّا النواهي والمحرمات: فلا يقترب منها العبد مجردَ اقتراب: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187].
﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ أي: جميع الأقوال المحرمات، فإنها من قول الزور الذي هو الكذب، ومن ذلك شهادة الزور.