بين العبوس والبِشْر..
“احزن.. اعبِس.. لا تُظهِر نواجذك لأيّ أحد.. دعني أراك دائماً مُطرِقاً وجِماً..
وابقَ على هذه الحال حتى يُفكّ القيد عن الأقصى الأسير.. وتتحرّر الأراضي المغتَصَبة.. وينضب شلال الدم المسلم المسفوح من أقاصيها إلى أقاصيها.. ويتغيّر الحكّام.. ويوأَدُ الخونة والعملاء.. ويعود للدين مجداً سليباً..
وإلاّ! فلن تكون ابناً باراً للإسلام.. ولا ناصراً للقضيّة والأمّة العربيّة!
تجهّم!”
الكثير من الناس – غير الواقعيين – يردّدون هذه التعابير ظنّا منهم أنهم يُحسِنون صُنعا.. فما إن يجدوا أناساً يضحكون أو يتمازحون في جلسةٍ أو جَمعٍ حتى يُمطِروهم بسيلٍ من الأقاويل التي يُحكِمون انتقاءها.. ولكلِّ مقامٍ مقال..
فهناك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ” لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً” وكذلك مقولة القائد صلاح الدين رحمه الله تعالى “كيف أبتسم وبيت المقدس أسير؟!”.. وهناك وصيّة الإمام حسن البنّا رحمه الله “لا تمزح فإنّ الأمّة المجاهِدة لا تعرف إلا الجدّ”.. إلى ما هنالك من الأقوال.. فتجد البعض يتربّص بك الدوائر فما ان تُبدي أسنانك قفز إليك ناهياً لك مذكِّراً بالأهوال في الأمّة وبالمآسي والخطوب العِظام طالباً منك العبوس والإقلاع عن “ذنب” التبسّم..
وهذا حق لا نُنكِره.. فالأمّة تنهشها المآسي والمسلمون غرقى في الدماء والحصار والأسى.. ولكن..
ما زلنا بشراً.. وإن كنّا مسلمين..
فبشريّتنا تجعلنا نأكل وننام ونضحك ونبتسم ونتزوج ونعمل ونصيب من الدنيا حظوظنا منها..
وإسلامنا يجعلنا نقتدي بخير البشر صلى الله عليه وسلّم حيث كان يمزح ويلاعب الأطفال ويداعب نساءه ويمازح صحابته وكان دائماً ما يلاقيهم مبتسماً!.. أليس قدوةً لنا في كل شيء؟! بأبي هو وأمّي.. بلى!
جاء في الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلّم: “إنّي لأمزحُ ولا أقول إلا حقاً”.. فكان بالرغم من ثقل المسؤوليات الملقاة على عاتقه يمزح! ألم يقل للعجوز “لا تدخل الجنّة عجوز” وسأل امرأةً يوماً: “زوجك الذي في عينه بياض؟” وقال لأنس بن مالك “يا ذا الأذنين” ولعليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه “يا أبا تراب”.. وبقي حولاً كاملاً يضحك مع الصحابة على فِعلةِ نعيمان بسويبط حين كانا في سفرٍ فباع نعيمانُ سويبطاً لأنه منعه بعض زاد! ونعيمان الأنصاري هذا من الصحابة الذين عُرِفوا بالفكاهة والمزاح وقد شهِد بدراً وأُحُدا ولكن هذا لم يمنعه من أن يكون مرِحاً ولم ينكر عليه ذلك حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام ولا أبي بكر الصدِّيق ولا الصحابة الكرام الذين كانوا أكثر الناس حرصاً على الدين!
وقد روى الطبراني عن قرة قال: قلت لابن سيرين: هل كانوا يتمازحون (يعني الصحابة)؟ قال: “ما كانوا إلا كالناس.. كان ابن عمر يمزح وينشد الشعر”..
فهل ندّعي أننا أحرص من الحبيب عليه الصلاة والسلام على الدِّين والأمّة؟ أم أن مسؤولياتنا اليوم أثقل من هموم الصحابة في حمل لواء الدعوة ونشر الدِّين؟ أعمالنا تشهد علينا إن فعلنا!!
أم أنه يُمكِن أن يُتَصوَّر أنه في زمن الصحابة لم يكن هناك حوادث عِظام أصابت المسلمين في كبَد؟! أو أنهم لم يمرّوا بمصائب أثّرَت على الدعوة في ذلك الوقت؟!
ثمّ فلنكن واقعيين! مَن يقوى على مداومة العبوس وتقطيب الوجه وإظهار الألم والأسى طوال ليله ونهاره؟ مَن يستطيع الجمود عن ملاعبة الأطفال والزوج والخروج والابتسام بل قل حتى والضحك؟ أليس مَن يدّعي أنه يفعل ذلك هو أحد اثنين: إمّا مدّعٍ وإمّا مبالِغ؟!! فضلاً عن أن هذا يخالِف الفطرة في النفوس ورغبتها في فسحةٍ حين يلتمس المرء بعضَ راحة.. وكيف سيكون حال هذا العابس في حياته مع الناس حين يتعامل معهم وهو لا يكاد يبتسم أبداً؟ مَن ذا الذي سيعاشره؟ أو سيرغب في مصاحبته وهو لا يذكّره إلا بالأسى والألم؟! وهل سينجح في دعوته؟! بالطبع لا! فإنّ التزامه بما هو مؤمن به من عدم المزاح ولا التبسّم سيجعله –بلا أدنى شك- يخفق في استقطاب قلوب الناس إلى الإسلام..
إنّ الذي نهى عنه الدين حقيقةً هو الكذب في المزاح أو الإفراط فيه وفي الضحك فهذا قد يُقسّي القلب ويُشغِل عن المهم من أمور الدين والدنيا..
إن الإسلام دين واقعيّ ولا يريد من أبنائه العيش في الخيال أو المثاليّة البعيدة عن التحقيق ولا يطلب منهم أن يكونوا ملائكة.. ولئن برز من المسلمين قادة ليسوا كالرجال فلا يمكن تعميم ما عاشوه على العامّة.. ليس كل أحدٍ كصلاح الدين.. أو كعظماء أمّة الإسلام.. فالناس في أغلبها يضحكون ويبكون! ولا يجب أن يُنكِر عليهم البعض ميولهم الفطريّة لأنهم بذلك يكونون قد حرَّروهم من “آدميتهم”..
ولِمن يعيب على غيره المزح البريء.. لَم ينافقوا يا أخي حين ابتسموا وضحكوا.. ويعلم الله جل وعلا ما قد يكون في القلوب من الحرقة على الدين وعلى ما يتعرّض له المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.. ولكنهم ربما كحنظلة.. وحسبهم قول حبيبنا صلى الله عليه وسلّم.. ساعة وساعة!
بين العبوس والبِشْر..
أ.سحر المصري