ذاكرة الشم
هارون يحي
إنّ حاسة الشم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالذاكرة، وذاكرة الشم هي التي تقودنا إلى معرفة هوية الروائح التي نشمها في حياتنا اليومية، فكل رائحة يتم خزنها في ذاكرة حاسة الشم حسب رموز معينة. فعند إحساسنا برائحة ما يتم التعرف عليها حسب ما يقابلها من رموز موجودة في أرشيف ذاكرتنا الشمية، ولو شممنا رائحة ما غريبة علينا، أي لم نصادفها من قبل فإن مخ الإنسان يحاول تحليلها حسب أقرب رائحة إليها مخزونة في الذاكرة الشمية، وكان يستحيل علينا التعرف على الروائح لولا وجود مثل هذه الذاكرة.
( قُل إِن تُخفُوا مَا فِي صُدُورِكُم أَو تُبدُوه يَعلَمُه الله وَيعلَمٌُ مَا فِي السّمَواتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَالله عَلَى كُلّ شَيءٍ قَدِيرٍ )
( آل عمران – الآية 29)
تعليق على الصورة:
بواسطة الذاكرة الشمية يتم تذكر أحداث جرت حتى في مرحلة الطفولة.
ولا تتحدد العلاقة بين الذاكرة وحاسة الشم بهذا الإطار فقط، لأن الروائح تخزن في الذاكرة مع الأحداث المرافقة لها والتي جرت عند الإحساس بتلك الروائح. وعند مصادفتنا لرائحة عطر ما أثناء سيرنا في الطريق فإن تلك الرائحة ربما تذكرنا بالشخص الذي يستعملها، وربما أدت رائحة طعام ما إلى تذكرنا حادثة جرت قبل سنين طويلة، ومثلما كانت الذاكرة الشمية تثير أفراحنا القديمة فإنها تثير أشجانا قديمة أيضا.
ورب سائل يسأل : أين تخزن الأحداث المرافقة للروائح التي أحسسنا بها قبل سنوات طويلة ؟ أين تقع تلك الخزانة الضخمة للذكريات والشجون التي نتذكرها عند إحساسنا بالروائح ؟ ولم يتوصل العلم الحديث بعد إلى الجواب المقنع عن هذه الأسئلة، ولكن بعض العلماء يعتقد أن المعلومات المتعلقة بالروائح المحسوسة يتم خزنها في منطقتين هما "حصان البحر " و"النواة اللوزية51 ".(الشكل 19).
إن الأبحاث العلمية التي أجريت في هذا المجال أظهرت نتائج واضحة تبين أن الذاكرة الشمية هي بمثابة بنك للمعلومات خاص بالروائح التي نشمها طيلة حياتنا (عدا حالات الإصابة بالمرض أو الإصابات الشديدة)، بالإضافة إلى كون هذه الذاكرة الشمية ذات قدرة على التجدد باستمرار52، فإذا شممنا رائحة ما لأول مرة في حياتنا سرعان ما يتم خزن المعلومات المتعلقة بها في الذاكرة الشمية، وهكذا يمكننا التعرف عليها عند الإحساس بها مرة أخرى، ولاحظ عزيزي القارء أن الذاكرة الشمية تتألف من الخلايا المتشكلة من البروتينات.
تحتوي هذه الخلايا على أرشيف ضخم من المعلومات تقوم بتجديده باستمرار وإضافة معلومات جديدة إليه كلما تم الإحساس برائحة جديدة، ولنجر هنا مقارنة صغيرة كما يلي: إن الحاسبات الإلكترونية التي اخترعها الإنسان هي من أهم اختراعاته، ولكنها أجهزة عاجزة عن تجديد برمجياتها تلقائيا دون تدخل الإنسان، وكذلك خلايا الذاكرة الشمية فإنها عاجزة عن تجديد معلوماتها لولا العناية الإلهية، فالله سبحانه وتعالى خلقها وأودع فيها هذه الخواص الخارقة.
( أجريت المقارنة لأجل المقارنة وليس لغرض التشبيه – ولله المثل الأعلى ).
والآية الكريمة شاهد على ذلك : ( الذِينَ يَحمِلُونَ العَرشَ وَمَن حَولَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمدِ رَبِّهِم وَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَستَغفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُوا رَبّنَا وَسِعتَ كُلّ شَيءٍ رَحمَةً وَعِلمًا فَاغفِر لِلّذِينَ تَابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِم عَذَابَ الجَحِيم ).
( سورة المؤمن – الآية 7)
وهناك صفات تتصف بها الذاكرة الشمية تميزها عن الذاكرة البصرية والسمعية، وهي صفات أثبتتها التجارب والأبحاث العلمية، وتتمثل في طول فترة بقاء المعلومات المرافقة للروائح داخل الذاكرة53، وهذه الصفة بالذات هي التي تثير في الإنسان مشاعر مكبوتة حال إحساسه بروائح معينة، وربما كانت هذه الروائح منبعثة من زهرة أو أحد أنواع التوابل أو حتى من إنسان، وأثبتت الأبحاث أيضا أن لكل إنسان رائحة معينة خاصة به على شاكلة بصمات الأصابع التي تميزه عن الآخرين 54، (يستثني من هذه القاعدة التوائم الذين ينشأون من بيضة واحدة)، وأبرز دليل على امتلاك الإنسان لرائحة خاصة به إحساس النبي يعقوب عليه السلام برائحة ولده النبي يوسف عليه السلام وتعرّفه على رائحته التي كان يعرفها وهو طفل صغير بعد مرور سنوات طويلة.
وقد ورد في القرآن الكريم:
( وَلمّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوهُم إِنّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَولاَ أَن تُفنّدُونِ )
( يوسف – الآية 94).