كلما تذكر قرب قدومه أصابته رعدة شديدة وخوف عميق، فهو ضيف ثقيل على نفسه، يأتيه كل عام؛ فيحرمه من شهواته ولذائذه، ويخالفه عاداته ومألوفاته، ويقلب نظام حياته، ويصيبه بالتعب والنصب..ودائما يتساءل بينه وبين نفسه كلما اقترب موعد قدومه، كيف الحياة بلا تدخين؟؟ بلا قهوة؟؟ بلا شراب بارد، وطعام لذيذ؟؟.. شراب بارد يسرى في أوصال الجسد، فيبلله بعد جفاف، كأنما هو ندى أصاب ورقة جافة فأعاد إليها نظارتها واخضرارها، وطعام لذيذ يتذوق حلاوته، فيجعل الدنيا أمامه حلوة خضرة نضرة.
هكذا كان يرى الضيف القادم، ضيف ثقيل، يحل عليه من غير رضا، ويفرض نفسه عليه من غير استئذان، فيحيل حياته ضجرا، ونومه قلقا، ونفسه زعزعة..فالشهوات لها دخان يغشى العيون، وران يغلف القلوب.
لم ير الضيف القادم إلا ضيفا يطبق على الأنفاس فيخنقها، وعلى القلوب فيوحشها..لم ير أنه ضيف كريم، والكرم صفة متوقعة في المضيف وليس الضيف، إلا انه ليس كأي ضيف؛ إنه ضيف من عند الله، فهو الكريم، يجود للمضيف من كرمه مالا تدركه النفوس الكليلة والقلوب المريضة.
لم ير منه إلا التعب والنصب والحرمان، ولم ير ما يجود به الضيف الكريم من غفران الذنوب، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، وفتح أبواب الجنان، وغلق أبواب النيران، وتصفيد المارد من الشيطان، وزيادة الرزق والبركة من الرحمن.. لم ير فيه " صوموا تصحوا".. لم ير فيه صفاء الأرواح، ونقاء القلوب، ونزع الرذائل، وغرس الفضائل.
ظل يترقبه بحذر، وكلما تقدمت الأيام كلما زاد ضيقه، واشتد ضجره، وكلما ذكر أمامه كأنما ملك الموت جاء يقبضه، فيشتد فرقه!! ويزداد خوفه!!
وبينما كان الأطفال في الشوارع يهللون طربا لظهور الهلال، ويرددون في طرب وسرور: " رمضان جانا، أهلا رمضان" .. كانت نفسه تقعقع بين يدي ملك الموت؛ ينزعها إلى بارئها "وحيل بينهم وبين ما يشتهون"
م.ن