الدين الخالص
ليس إلا في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن الذي لم يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعرف سنته فإنه يبقى طول حياته يتخبط في جهله ثم يلوم غيره ممن فتح الله عين بصيرتهم ووفقهم لفهم كلامه وكلام رسوله. ويحسدهم على ذلك، ويحقد عليهم، ويحتقرهم، ويحاول جاهداً أن يشوه سمعتهم عند الناس، زاعماً كذبا: أنهم لا يحترمون الأئمة، وأنهم يرون أنفسهم مساوين للأئمة. وهذا وربك أيها القارئ المنصف كذب وزور، حاكته نفس ذلك المسكين وخياله فإنهم لم يدعوا أنهم كالأئمة في علمهم واجتهادهم، ولم يفرض الله على أحد أن يكون كالشافعي ولا أحمد ولا مالك ولا غيرهم، ولكن فرض على الناس تدبر كلامه وفهمه والعمل به. ومثل هذا مفروض في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد عقد البخاري رحمه الله بابا في ذلك. فقال: باب العلم قبل القول والعمل والعلم هو معرفة كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا علم إلا ذلك عند الإطلاق، فأما التقليد فليس بعلم ولا أهله بعلماء.
قال ابن الهمام في التحرير:
التقليد: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة. وقال القفال: هو قبول قول القائل، وأنت لا تعلم من أين قاله.
وقال الإمام الشوكاني:
هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة.
وقال في إرشاد الفحول:
- المسألة الثالثة - اختلفوا في المسائل الشرعية الفرعية، هل يجوز التقليد فيها أم لا؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز مطلقا. قال القرافي في مذهب مالك وجمهور العلماء على وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد. وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد. قال: ونقل عن مالك أنه قال: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق فاتركوه. وقال عند موته: وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطاً على أنه لا صبر لي على السياط.
قال ابن حزم فها هنا مالك ينهي عن التقليد، وكذلك الشافعي، وأبو حنيفة وقد روي المزني عن الشافعي في أول مختصره أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره ا هـ. قال الإمام الشوكاني وبهذا تعلم أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور.
وقال الإمام الآمدي في كتابه الأحكام:
والمعتمد في المسألة أنه يقال: القول بجواز التقليد حكم شرعي، ولا بد له من دليل، والأصل عدم ذلك الدليل، فمن ادعاه يحتجا إلى بيانه، ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق من له أهلية التوصل إلى الحكم وهو قادر عليه، ووثوقه به أتم مما هو مقلد فيه. ا هـ.
وقد أورد اعتراض المعترضين على ذلك وأجاب عنه.
قال الشوكاني في إرشاده:
وما أحسن ما حكاه الزركشي في البحر عن المزنى أنه قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة؟ فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: بغير علم، قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ فإن قال: أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء. قيل له: تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عنك. فإن قال نعم، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه ثم كذلك حتى ينتهي إلى العالم من الصحابة، فإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف يجوز تقليد من هو أصغر وأقل علماً، ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأغزر علماً؟ وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه حذر من زلة العالم" وعن ابن مسعود أنه قال "لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر" ا هـ.
وقد اتفق العلماء وذكروا في غير ما كتاب من كتبهم الأصولية وغيرها: أن المقلد ليس بعالم، ولا يجو أن يولى القضاء والإفتاء وإنما العالم هو صاحب الحجة والحجة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا حجة إلا ذلك، وما كان من إجماع أو قياس فمرجعه إليهما.
قال الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة:
ففرض الله عز وجل على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله، فقال في كتابه ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129] وقال ﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون ﴾ [البقرة: 151] وقال ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164] وقال ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231] وقال ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ وقال ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 48، 51] قال الشافعي: فأعلم الله الناس في هذه الآية: أن دعاءهم إلى الله ورسوله ليحكم بينهم دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سلموا لحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنما سلموا له بفرض الله، وأنه أعلمهم أن حكمه حكمه، على معنى افتراضه حكمه وما سبق في علمه جل ثناؤه من إسعاده إياه بعصمته وتوفيقه، وما شهد له به من هدايته، واتباعه أمره، فأحكم فرضه بإلزام خلقه طاعة رسوله وإعلامهم أنها طاعته، فجمع لهم أن أعلمهم أن الفرض عليهم اتباع أمره وأمر رسوله معا، وأن طاعة رسوله طاعته، ثم أعلمهم أنه فرض على رسوله صلى الله عليه وسلم اتباع أمره. جل ثناؤه. اهـ.
وقال في موضع آخر:
إن الله فرض على الناس طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول: أنه فرض إلا لكتاب الله ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لما وصفنا من أن الله جل ثناؤه جعل الإيمان برسول الله مقرونا بالإيمان به، وسنة رسول الله مبينة عن الله عز وجل معنى ما أراد، ودليلا على خاصه وعامه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله صلى الله عليه وسلم. ا هـ.
ومن جمود المقلدين نشأت المضرات الآتية:
1- حلول القوانين الإفرنجية محل الشريعة الإسلامية.
2- إنشاء محاكم أهلية كبيرة بدل المحاكم الشرعية.
3- قصر المحاكم الشرعية على عدة مسائل شخصية في الرضاع والطلاق والزواج والنفقة وما إلى ذلك.
4- الحكم في الدماء والأموال وسائر الحقوق والتعزيرات خرج من يد قضاة الشرع إلى قضاة القانون ووضعت فيهم الثقة دون أولئك.
فمن لي بعين الخنساء وقلبها لأبكي بهما على أعز من فقيدها.
5- تذمر كثير من المسلمين من حكم المحاكم الشرعية لعدم ملاءمتها روح العصر، وجمود قضاتها على أحكام كانت لزمن غير هذا الزمن، وقضايا لها ظروف خاصة، وأحوال اقتضتها، فلم تكن قواعد عامة لكل زمن ولكل ناس، كالقرآن الكريم حتى أن كثيراً من الآباء قتلوا أولادهم من أجل الحكم عليهم بنفقة، ومنهم من خرج من الدين إسقاطاً لما عليه من حقوق زوجه، ومنهم من خرج من البلاد فراراً من مطالبة المحكمة له بنفقة زوجه، وكثرت الحيل وشهود الزور والفسق في مكاتب المحامين، حتى ضجت الأرض إلى ربها من جمود القضاة وحيل المحامين.
6- عمل المحللات التي لعنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أن بعض المتعالمين في القرى يتخذ رجالا كالتيوس لهذا الغرض الخبيث.
7- التنفير عن الدين الإسلامي بسبب الجمود، فإن المتعلمين للعلوم الحديثة على المنهج الجديد، وخصوصاً منهم المتضلعون في الثقافة الأوربية والعلوم الأوربية يظنون أن ذلك من طبيعة الدين نفسه لا من المنتسبين إليه.
8- سقوط العلماء من نظر أهل الفكر والعقل الحديث.
9- بعدهم عن الكتاب والسنة وصدهم غيرهم وإبعادهم الناس عنها.
10- غضب الله عليهم بسبب ذلك بأنواع الفتن والعقوبات المادية والروحية.
11- حمل وزرهم ووزر غيرهم ممن أضلوهم أو نفروهم عن الدين بهذا الجمود.
12- شهادة القرآن عليهم بالجهل وعدم الهداية في مثل قوله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104].
13- إهمال الكتاب والسنة بعدم تدبرهما.
14- الاعتراف العملي منهم بعدم صلاحية الكتاب والسنة لهذا الزمان وما بعده إلى يوم القيامة.
15- الاعتراف القولي منهم بعدم وجود من يقدر على فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وفي هذا ما فيه.
16- سد باب رحمة الله من بعد الأئمة، فلا مجتهد بعدهم.
17- التكذيب بحديث "إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها" ونحوه.
18- عدم استحقاقهم ما يستحقه أهل العلم في الوقف اليوم شرعا، لأن الأوقاف الموقوفة على العلماء إنما يقصد بها العلماء بالمعنى الشرعي لا المعنى الاصطلاحي، فصار ما يأخذونه غير حلال لهم، فأكلوا الحرام بسبب جهلهم.
19- مشابهتهم القسس في نهيهم الناس عن تدبر القرآن والسنة والفهم فيهما وذلك أن القسس ينهون أشد النهي عن النظر في الإنجيل والتوراة، ويقولون لإخوانهم من أهل الكتاب: ليس لكم هذا، وإن فعلتم كفرتم (وشلحتكم الكنيسة) وما أرادوا بذلك إلا الاستعلاء على العوام وسد باب العلم عليهم لئلا يعرفوا تحريفهم وتقصيرهم في العمل بالأوامر إلى غير ذلك.
20- شهادة القرآن للمستدل بالعلم، ووصفه المقلد بالعمى. قال تعالى ﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19] وقال تعالى في الأمثال التي يضربها في كتابه ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 43].