وقف ( كمال ) ينظر إلى نفسه في المرآة طويلاً .. فهذا أول يوم له في عمله الجديد .
البدلة الكاملة و القميص و ربطة العنق و الحذاء اللامع .
رشَّ زخات من عطره المفضل، ثم حمل حقيبته الجلدية و إنطلق لا يلوي على شيء .
دفن نفسه تماماً في العمل منذ الوهلة الأولى ، فهو لا يكاد يصدق أنه موظف الآن .
عاد نهاية اليوم مرهقاً يجتر أحداث يومه الأول .
شعر بالثقة تملأ جوانحه.
غفا قليلا .
رن جرس الهاتف ، و جاءه صوت أنثوي يَربِت على روحه .
آلو ، مساء الخير .
قال و هو يبتلع ريقاً جافاً : مساء النور ، مين ؟
قالت : مش ضروري تعرف أنا مين دلوقت ، بس حبيت أقول إنك اليوم كنت في منتهى الأناقة
والشياكة ، و بصراحة إنت أي لبس لايق عليك..
( إبتسم و هو يمتليء زهواً و ينتفش كما الديك الرومي )
قال : شكراً .. إنت زميلة معانا في المكتب ؟ مش كدة ؟
قالت بعبث صبياني : بلاش أسئلة كتيرة ، يللا مع السلامة .
ثم أغلقتْ السماعة .
جلس يمضغ طعامه دون وعى و دون أن يستسيغ مذاقه ، يكاد يحس وقع اللقمة في قاع معدته وهي تستقر هناك.
كلماتها ترن في أذنيه .
وقف أمام المرآة ، قام بلبس نفس ملابسه الصباحية ، ثم إستدار و نظر إلى نفسه من كل الجهات ، و قال يحدث نفسه :
ما هذا الجنون ؟ هي قالت بأنني كنت في منتهى الأناقة و هذا يكفي .
ظل طوال الليل ساهراً يقلب وجوه زميلاته في مخيلته ، و يساءل نفسه : من هي يا ترى ؟
تأنق و تعطر صباح اليوم التالي.
ظل يعمل و هو يرنو بطرف خفي إلى زميلاته .
يا ترى من هي ؟
قبض على إحداهن و هي تسترق النظر إليه .. إبتسم لها إبتسامة ذات مغزى و كأنه قد حل لغزاً مستعصياً .. فقامت من مقعدها و إتجهت نحوه مباشرة ، فصعد الدم إلى رأسه و أحس بجفاف في حلقه .
وقفتْ الفتاة متكئة على يديها على حافة طاولته و هي تمضغ قطعة من اللبان بصوت عالٍ و قالت له هامسة : ممكن أعرف سر إبتسامتك ؟
قال و هو يزدرد ريقه : تقصدي إيه ؟
قالت من بين أسنانها : الإبتسامة و عرفناها يا كازانوفا زمانك،بس عقلك ما يروحش لبعيد،الواحدة في المكتب دة تبطل إبتسام ولا إيه ؟
ثم نفخت اللبانة و طرقعتها حتى إلتصقت بأنفها و أصابه بعض من رذاذ الفرقعة، ثم ذهبت و هي تطلق ضحكة مستخفة تتناغم مع إيقاع كعب حذائها.
إمتقع لونه ، و ذاب خجلاً و هو يرمق إبتسامات و ضحكات زميلاته و زملاؤه.
إذن من هي ؟ من هي ؟
ربما تلك التي لم تشارك في السخرية ؟
ربما في قسم آخر رأته في مدخل المكتب ؟ فمدخل البناية واحد.
و رجع نهاية اليوم و رأسه مثقلة بأسئلة لا أجوبة لها .
و ما أن جلس ليأكل حتى رن جرس الهاتف فجفل كالملسوع.
جاء صوتها منساباً كالشــلال : مساء الخير . اليوم كنت زهجان و تعبان .. مش زى أمبارح يعني ؟
قال متوسلاً : يا بنت الحلال ، أنا في طولك و عرضك ، مين إنت ؟
قالت بتأني : إنت ليش مستعجل على المعرفة ؟ كفاية إنو شايفاك و معجبة بيك لدرجة بعيدة .
قال مستعطفاً : طيب ، على الأقل نتعرف و نتقابل عشان يكون إعجاب متبادل.
قالت : مافيش داعي للعجلة ..
قال بصبر كاد أن ينفد : يعني أنا بعرفك ؟ أقصد بشوفك كل يوم ؟ إنت زميلة في العمل ؟ جارتنا ؟ بشوفك في المواصلات ؟
( أتته ضحكتها فجعلتْ قلبه و كأنه قطعة من زجاج تتناثر أجزاؤها على أرضية الحجرة ) ..
قالت و صوتها لا زال يجلله بقايا ضحكتها المملوءة غنجاً و دلالاً : و الله حتشوفني و أنا متأكدة إن شعورك نحوي حيكون زى شعوري نحوك ..
ثم أردفتْ : مع السلامة.
و أنهتْ المكالمة و تركته يتخبط في حيرته و ذهوله .
طوال شهره الأول بالعمل ظل يتلقى مكالماتها و ملاحظاتها على حركاته و سكناته بمجرد دخوله منزله.
أطل على الجيران من كل النوافذ دون فائدة .
كاد يجن.
كل زميلاته يتصرفن بطريقة أكدتْ له بأنها ليست واحدة منهن .
قفزت إلى ذهنه فكرة .
ربما زميل له يحب أن يمازحه فأخبر مَنْ ظلتْ تعاكسه كل هذه المدة ؟
إستبعد الفكرة تماما ، فالذي يمزح لا يمكن أن يستمر كل هذه المدة ..
شعر بأن المتحدثة قد أحدثتْ لها فجوة في قلبه و إندست بها ..
ما هذا ؟
أيمكن أن يحب صوتاً ؟
أهو حب ؟
و لكنه أدمن صوتها ..
كان يلبس ملابسه و تعليقاتها تطن في أذنيه ..
ضحكاتها تربت عليه حتى ينام ..
يصحو على صوتها ..
و إستمر على هذا المنوال ..
ذات يوم قال له مديره المباشر : المدير العام عاوزك .
أنا شخصياً ؟ خير إن شاء الله ؟ دة أنا ما شفتوش من يوم ما إشتغلت.
قال له : روح بنفسك و شوف إيش الحكاية..؟ بتعرف المكتب ؟ في الطابق التالت على يدك اليمين .. الباب البني الكبير ..
ذهب و هو يقرأ المعوذتين و آية الكرسي .. فهذه أول مرة يدخل مكتب المدير العام ..
متوجساً خيفة، طرق الباب ثم دلف و هو يطأطيء رأسه ..
عبّقت أنفه رائحة أنثوية نفاذة و لكنها محببة ..
رفع رأسه بحذر ..
وجد إمرأة تكبره بحوالى العشر سنوات أو أكثر تجلس على الكرسي الدوار و هي تحدق فيه مباشرة .
حضورها القوي و وجهها الصارم جعلاه ينسى أن يلقي عليها التحية .. بل تمتم ببضع كلمات مبهمة .
قالت له بصوت جعلته يرهف سمعه إلى أقصى حد :
تفضل أقعد ، إنت كويس ؟
فغر فاه و جحظتْ عيناه و جعل ينظر إليها ..
قالت بتردد بائن : ليش ما بترد ؟
قال و هو يزدرد ريقه : صوتك ما غريب على أبداً ..
قالت و هي تخفي خجلاً بدا ظاهراً رغم محاولتها التماسك و اصطناع الوقار : سمعت الصوت دة فين ؟
قال و قد واتته بعض شجاعة : سمعتو في التلفون ..
قالت و هي تتلاعب بقلم رصاص بين أصابعها و هي تميل رأسها و إبتسامة شاردة تقف على طرف ثغرها : إنت متأكد ؟
قال و العرق يبلل جل جسده : متأكد مليون المية ..
قالت و هي تنظر إليه بتحفز : يخلق من الصوت أربعين ..
قال متوسلاً : يعني إنت الـــ ..
قالت : أيوة أنا الــــ ..
ثم تزوج ( كمال ) الموظف من فريال المديرة ..
و ظل يرتقي درجات سلالم الوظائف سلماً بعد الآخر .. و أحياناً يختزل السلالم قفزاً بالعامود.
بعد عشر سنوات كانت فريال قد تعبتْ من الجمع بين الوظيفة و متطلبات الزوجية و رعاية الأولاد .. كما أنها كبرتْ في السن قليلاً فآثرت الإنزواء لترتاح في البيت ..
جلس ( كمال ) زوجها في مكتبها متقلداً منصبها .. و أشياء أخرى ..
كان قد وصل حينها نفس سنها عندما رآها أول مرة ..
ظل يراقب شابة جديدة كان قد عيّنها عن طريق واسطة شخصية منه بعد أن رآها و هي تنتظر معاينة ما قبل التوظيف ضمن فتيات أخريات ..
لم تعرف الفتاة أنه عيَّنها رغم عدم تفوقها على بقية المتقدمات ..
و لكنه كان قد عيّنها بعد أن أضمر أمراً و تأبط شيئاً ..
لم يحاول أن يصل إليها عبر طريقة زوجته فريال ..
فهو مجبول على تطبيق مقولة أن أقصر الطرق للوصول هو الخط المستقيم.
فقد عينها سكرتيرة خاصة له .. و في نفسه شيء ما ..
***
جلال داود ( ابوجهينة ) الرياض