الجاسوس الغامض
*****************
لم تكن أشعة الشمس قد اشرقت بعد،على العاصمة الأميركية (واشنطن)،في تلك الفترة في اوائل خمسينات القرن العشرين،عندما توقفت ثلاث سيارات تابعة للمخابرات المركزية الأميركية،في ذلك الحي الراقي الهادئ من المدينة، وهبط منها خمسة عشر رجلاً، يحمل كل منهم مسدساً قوياً، وانتشروا بسرعة تشف عن الخبرة والمرونة، حول بناية أنيقة من ثلاثة طوابق،وهم ينتظرون اشارة من رئيسهم، الذي وصل في سيارة رابعة، هبط منها في سرعة ورشاقة،وهو يقول في حزم صارم:
- الآن.
فور اشارته وقوله، انطلق الرجال يقتحمون المبنى،في قوة وبراعة.
وصمت أيضاً...
كانوا فريقاً خاصاً للغاية،مدرب على الاقتحام والسيطرة،على يد خبراء ألمان،تم جلبهم إلى الولايات المتحدة الأميركية،بعد هزيمة (ألمانيا) النازية،في الحرب العالمية الثانية.
وكانت مهمتهم محدودة تماماً.
والمدهش أن هذه المهمة
كانت تقتصر على اعتقال رجل واحد.
رجل تؤكد كل ملفاته،
وكل المعلومات التي تم جمعها عنه،
انه لم يطلق رصاصة واحدة في حياته.
بل لم يحمل قط أية اسلحة نارية.
وعلى الرغم من هذا،
فقد كان الرجل جاسوساً لم يشهد عالم الجاسوسية،
في تاريخه كله،
من هو أكثر خبرة وبراعة منه.
وفي اهتمام مشوب بالتوتر،راح قائد فريق الرجال يراقب عملية الاقتحام،وهو يتحدث عبر جهاز اتصال لاسلكي ضخم،من الأجهزة التي كانت متوفرة في ذلك الحين، قائلاً لآخر في حزم:
- يبدو أننا قد أوقعنا به يا سيدي.
أجاب الآخر، عبر الجهاز نفسه، في عصبية واضحة:
- إنني أبغض مصطلح (يبدو) هذا يا (مايكل)...
إما أن تلقي القبض عليه فعلياً، أو تقول: إنك لم تفعل بعد.
عضّ (مايكل) شفتيه في حنق، والتقط نفساً عميقاً،ليسيطر على أعصابه،قبل أن يجيب:
- إننا في سبيلنا إلى هذا يا سيّد (سام).
أجاب رجل المخابرات (سام) في خشونة:
- أبلغني عندما يقع في قبضتكم فعلياً.
غمغم (مايكل):
- إنها مسألة وقت فحسب يا سيّد (سام).
أجابه (سام) في لهجة يغلب عليها الغضب والسخط:
- حقاً؟!
ثم أنهى المحادثة في عنف،كما لو أنه يعتقد أن كل ما يحدث مجرد عبث...
ولقد أحنق هذا (مايكل) بشدة، فلوح بيده، قائلاً في حدة، على الرغم من خفوت صوته:
- أريده حياً.
كان معظم رجاله داخل المبنى بالفعل، يقتحمون منزل الهدف،بإستثناء مجموعة أحاطت بالمبنى من الخارج، إحاطة السوار بالمعصم، في تحفز تام، وعلى نحو يوحي بأن ذلك الشخص،الذي أتوا من أجله، شخص خطير للغاية،وأن الأوامر الصادرة تحتم الإيقاع به واعتقاله.
وبأي ثمن.
فعلى الرغم من الأوامر الصارمة المشددة، التي تطلب إنهاء العملية بأكبر قدر ممكن، من الحسم والهدوء،بدأت ضجة محدودة ترتفع من المكان، مما جعل (مايكل) يتساءل في عصبية:
- ألم يوقعوا به بعد؟!
لم تكد عبارته تكتمل، حتى شاهد مساعده يغادر المبنى،ويتجه نحوه مباشرة، بوجه شاحب ممتقع، وأمطار من العرق تغمر وجهه، مع برودة الطقس، في تلك الساعة المبكرة، فهتف به في عصبية،لم يستطع أو يحاول اخفاءها:
- هل ظفرتم به؟!
خيل إليه أن وجه الرجل قد ازداد امتقاعاً وشحوباً،وهو يهز رأسه في توتر مجيباً:
- لم نعثر له على أدنى أثر.
انتقل امتقاع الرجل إلى (مايكل)،الذي أصابه الجواب بصدمة عنيفة، جعلته يصرخ في ذعر مستنكر:
- لم تعثروا على ماذا؟!
ومع صرخته، قفز من أعماقه سؤال مفزع...
كيف سيبلغ رئيسه بفرار الهدف، قبل أن يظفروا به؟!
كيف؟!
ومع توتره وعصبيته، تلفت حوله في حدة،وكأنما يتوقع رؤية الهدف، وهو يعدو هنا أو هناك.
التقط من جيبه ذلك الأمر الرسمي،باعتقال الرجال، ولوح به، هاتفاً:
- إنها ليست نهاية المطاف..
. انتشروا في المنطقة، وابحثوا عنه في كل مكان..
. لا تسمحوا له بالفرار أبداً.
أطاع الرجال أوامره، وانتشروا على نحو منظم مدروس، في شكل دائرة متزايدة الاتساع، للبحث عن الهدف، في حين تطلع (مايكل) إلى الورقة في يده، وهو يقول بتوتر وعصبية:
- لن تفلت هذه المرة... لن تفلت أبداً.
نطقها في مقت واضح،وكأنما يحمل في أعماقه ثأراً شخصياً،تجاه صاحب الصورة الملصقة بالأمر الرسمي، والذي يبدو في منتصف الأربعينات من عمره،وإلى جوار الصورة كان الاسم مدوّناً في وضوح.
(جون كوبرن)...
ولكن (مايكل) كان يعرف جيداً، كما يعرف رؤساءه، أن هذا ليس اسم الرجل الحقيقي.
ويعرف كما يعرفون أيضاً أنه ليس أميركياً...
ولكنه مثلهم، لا يعرف اسمه الحقيقي.
أو جنسيته...
أو أي شيء واضح عن هويته الحقيقية...
كلهم لا يعرفون شيئاً عنه.
على الإطلاق.
نشير هنا إلى أن رجال المخابرات المركزية الأميركيةقد قلبوا (واشنطن) كلها رأساً على عقب،بحثاً عن ذلك الجاسوس الغامض، دون أن يعثروا له على أدنى أثر.
ولأن الأمر كان أخطر من أن يتم تجاوزه، فقد امتدت دائرة البحث بطول الشاطئ الشرقي للقارة الأميركية، ثم تجاوزتها إلى الغرب.
باختصار، كل شبر أمكنهم الوصول إليه، قلبوه رأساً على عقب،دون أن يظفروا بأثر واحد، أو طرف خيط رفيع، يمكنهم الاستعانة به، للوصول إلى هدفهم العجيب، الذي اثبت، خلال ثلاثة أسابيع من البحث الدؤوب، أنه يستحق عن جدارة تلك الشهرة،التي فاقت الآفاق، باعتباره أكبر لغز عرفه عالم الجاسوسية منذ ابتدعه الفراعنة القدامى، وحتى يومنا هذا.
وفي توتر بالغ، اجتمع مسؤول مكافحة الجاسوسية (سام برودريك) بمساعده (مايكل جوريل)،وبدا شديد العصبية، وهو يقول:
- من المستحيل أن يحدث هذا!
كيف يمكن أن يختفي شخص هكذا، دون أن يترك أدنى أثر؟! لقد كان يعمل لحسابنا،ولدينا ملف كامل عنه، يحوي صورته، وبصماته، وكل تفاصيل حياته، فكيف نفشل في العثور عليه،بعد كل هذا؟صمت (مايكل) بضع لحظات،قبل أن يقول في حذر:
- لقد راجعت ذلك الملف أمس، للمرة الخامسة، بعد أن فشلت في العثور على صاحبه تماماً، و...
بتر عبارته دفعة واحدة، وامتلأت نفسه وملامحه بتردد بالغ،جعل (سام) يستحثه، قائلاً في عصبية:
- وماذا؟!
ازدرد (مايكل) لعابه في صعوبة، قبل أن يندفع قائلاً:
- وفوجئت بأن كل بياناته زائفة... تماماً.
وتفجرت عبارته في أذني (سام)،كألف ألف قنبلة...
ففي جهاز مثل المخابرات الأميركية،تعتبر معلومة كهذه كارثة..
كارثة بلا حدود.