السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
قال الله تعالى في كتابه العزيز بسم الله الرحمن الرحيم: (كهيعص.
ذكر رحمة ربك عبده زكريا.
إذ نادى ربه نداء خفيا.
قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا.
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا.
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا.
قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا.
قال
__________
= بعيسى مريم..في الاولى والآخرة ؟.
قالوا: كيف يا رسول الله ؟ قال: " الانبياء أخوة من علات..وأمهاتهم شتى..فليس بيننا نبي " حديث رقم 145.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 59 / 16 / 3319 فتح الباري ; ومسلم في صحيحه 39 / 39 / 148، 149، 150 وأحمد في مسنده ج 2 / 312، 449 وأبو داود والنسائي في سننيهما.
[ * ]
كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا.
قال رب اجعل لي اية قال ايتك
أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا.
فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا.
يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا.
وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا.
وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا.
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا) [ مريم: 1 - 15 ].
وقال تعالى: (وكفلها زكريا كلما دخل عليهما زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.
فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين.
قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء.
قال رب اجعل لي آية.
قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار) [ آل عمران: 37 - 41 ].
وقال تعالى في سورة الانبياء: (وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.
فاستجبنا له ووهبنا له يحيى واصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) [ الانبياء: 89 - 90 ] وقال تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) [ الانعام: 85 ].
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل.
زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهناشاط بن اينا من بن رحبعام بن سليمان بن داود أبويحيى النبي عليه السلام من بني إسرائيل.
دخل البثينة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى.
وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى والله أعلم.
وقد قيل غير ذلك في نسبه (1) ويقال فيه زكريا بالمد وبالقصر ويقال زكرى أيضا.
__________
(1) ذكر المسعودي في مروج الذهب: زكريا بن أدق من ولد داود من سبط يهوذا.
وقال ابن قتيبة في المعارف: زكريا بن أزن من ولد داود من سبط يهوذا.
ولم يذكر نسب زكريا في القرآن ولا في كتب الانبياء عند أهل الكتاب.
قال النجار في قصص الانبياء مشككا في نسبه المتداول: ويوجد زكريا - آخر - ليس له قصة في القرآن اصلا، وهذا له كتاب من الكتب القانونية عند النصاري.
وهو زكريا بن برخيا وكان في زمن داريوس أي قبل زمن المسيح بما يقرب من ثلاثه قرون.
والنصارى يؤولونه بالمسيح واليهود يؤولونه بمسيحهم المنتظر وهو المسيح الدجال.
أما زكريا أبويحيى فيظهر أنه كان ممن لهم شركة في خدمة الهيكل وعلى ذلك فهو لاوي.
ص 368.
[ * ]
والمقصود ان الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولدا على الكبر، وكانت امرأته [ مع ذلك ] (1) عاقرا في حال شبيبتها وقد أسنت أيضا حتى لا ييئس أحد من فضل الله ورحمته، ولا يقنط من فضله تعالى وتقدس فقال تعالى: (ذكر رحمت ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا).
قال قتادة عند تفسيرها: إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي.
وقال بعض السلف: قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرا عنده مخافته فقال: " يا رب يا رب يا رب فقال الله لبيك لبيك لبيك ".
(قال رب إني وهن العظم مني) أي ضعف وخار من الكبر (واشتعل الرأس شيبا) استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شبيه كما قال ابن دريد في مقصورته: أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدجا واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا وآض عود اللهو يبسا ذاويا * من بعد ما قد كان مجاج الثرى يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطنا وظاهرا وهكذا قال زكريا عليه السلام: (إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) وقوله: (لم أكن بدعائك رب شقيا) أي ما دعوتني فيما أسألك إلا الاجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ما ثان وكان كلما دخل
عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إوانها ولا في آوانها وهذه من كرامات الاولياء فعلم أن الرازق للشئ في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدا وإن كان قد طعن في سنه (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) وقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا) قيل المراد بالموالي العصبة وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون برا تقيا مرضيا ولهذا قال: (فهب لي من لدنك) أي من عندك بحولك وقوتك (وليا يرثني) أي في النبوة (2) والحكم في بني إسرائيل: (ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية (3) يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي وليس المراد ههنا وراثة
__________
(1) سقطت من نسخ البداية المطبوعة.
(2) قال القرطبي في الآية: سؤال ودعاء ; ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة فقيل كان عمره بضع وسبعين وقيل خمس وتسعين سنة وغلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره.
" يرثني " قيل النبوة: قال القرطبي: فأما قومهم وراثة نبوة فمحال، لان النبوة لا تورث.
(3) كان زكريا متزوجا بأخت مريم بنت عمران ويرجع نسبها إلى سليمان - داود - يهوذا يعقوب.
وزكريا من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى من ولد لاوى بن يعقوب.
[ * ]
المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير ههنا وحكاه عن ابي صالح من السلف لوجوه: أحدها: ما قدمنا عند قوله تعالى: (وورث سليمان داود) [ النمل: 16 ] أي في النبوة والملك كما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين العلماء المروى في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " (1) فهذا نص على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يورث ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من وراثه الذين لولا هذا النص لصرف إليهم وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس
رضي الله عنهم واحتج عليهم الصديق في منعه أياهم بهذا الحديث وقد وافقه على روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم.
الثاني: أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الانبياء: " نحن معاشر الانبياء لا نورث " (2) وصححه.
الثالث: أن الدنيا كانت أحقر عند الانبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسألوا الاولاد ليحوزوها بعدهم فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولدا يكون وارثا له فيها.
الرابع: أن زكريا عليه السلام كان نجارا يعمل بيده ويأكل من كسبها كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده والغالب ولا سيما من مثل حال الانبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهادا يستفضل منه ما لا يكون له ذخيرة له يخلفه من بعده وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهم إن شاء الله.
قال الامام أحمد: حدثنا يزيد يعني ابن هرون، أنبأنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان زكريا نجارا " (3).
وهكذا رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه عن حماد بن سلمة به.
وقوله: (يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا) [ مريم: 7 ].
وهذا مفسر بقوله: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين)
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي وأحمد.
وقد سبق تخريجه فليراجع.
(2) تقدم نص الحديث في الترمذي وفيه: " لا نورث ما تركنا من صدقة " من طريق أنس بن مالك.
22 / 44 / 1610.
وليراجع تخريج الحديث السابق.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه 43 / 45 / 165 ومسند أحمد ج 2 / 296، 405، 485.
[ * ]
[ آل عمران: 39 ] فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد والحالة هذه له: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) [ مريم: 8 ] أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير قيل كان عمره إذ ذاك سبعا وسبعين سنة والاشبه والله أعلم أنه كان أسن (1) من ذلك (وكانت امرأتي عاقرا) يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرا لا تلد والله أعلم.
كما قال الخليل: (أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون) [ الحجر: 54 ] وقالت سارة: (يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) [ هود: 72 - 73 ] وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه (كذلك قال ربك هو علي هين) أي هذا سهل يسير عليه (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) أي قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئا مذكورا أفلا يوجد منك ولدا وإن كنت شيخا.
وقال تعالى: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) [ الانبياء: 90 ] ومعنى اصلاح زوجته: أنها كانت لا تحيض فحاضت.
وقيل كان في لسانها شئ أي بذاءة (2) (قال رب اجعل لي آية) أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به (قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا) يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزا وأنت في ذلك سوي الخلق، صحيح المزاج، معتدل البنية.
وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والابكار فلما بشر بهذه البشارة خرج مسرورا بها على قومه من محرابه (فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشيا).
والوحي ههنا هو الامر الخفي إما بكتابه كما قاله مجاهد والسدي أو إشارة كما قاله مجاهد أيضا ووهب وقتادة.
قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتاده اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال ابن زيد كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد.
وقوله: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا)، يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الالهية لابيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه (3).
قال عبد الله بن المبارك قال معمر قال الصبيان
ليحيى بن زكريا اذهب بنا نلعب فقال ما للعب خلقنا قال وذلك قوله: (وآتيناه الحكم صبيا) وأما قوله: (وحنانا من لدنا) فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لا أدري ما الحنان.
وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك (وحنانا من لدنا)
__________