وقت بين وقتين
هلم الى الدخول على الله ومجاورته في دار السلام بلا نصب ولا تعب و لا عناء بل من أقرب الطرق وأسهلها. وذلك أنك في وقت بين وقتين وهو في الحقيقة عمرك, وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل, فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار, وذلك شي لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة عمل شاق, إنما هو عمل قلب, وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب, وامتناعك ترك وراحة ليس هو عملا بالجوارح يشق عليك معاناته, وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك, فما مضى تصلحه بالتوبة. وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية, وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب. ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين, فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك, وإن حفظته مع اصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم. وحفظه أشق من اصلاح ما قبله وما بعده, فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلا لسعادتها. وفي هذا يتفاوت الناس أعظم تفاوت, فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك إما الى الجنة وإما إلى النار. فإن اتخذت إليها سبيلا الى ربك بلغت السعادة العظمى والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة التي لا نسبة لها إلى الأبد. وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب انقضت عنك سرعة, وأعقبتك الألم العظيم الدائم الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله والصبر على طاعته ومخالفة الهوى لأجله.
واذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله. واذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله. وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله. وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل غاية العزة والرفعة.
لابن القيم الجوزية