الكلمة الطيبة صدقة
أي خلاف بين الزوجين يمكن حله إذا ضمن أهل الحل والتدخل في الأمر وجود قدر ولو ضئيل من
الوفاق الوجداني بين الاثنين تغذيه الكلمة الطيبة، فهذا وحده كفيل بتقريب المسافة الطويلة بين
الزوجين المتخاصمين، وهو أيضا كفيل ببتر الأمور المبعدة بين الاثنين .. أما كيف يمكن لذلك أن
يتحقق فهو ما سنناقشه في هذا الموضوع لعل .. وعسى...
د. صالح بن عبد الله بن حميد الأستاذ بجامعة الملك سعود يقول: إن أساس العلاقة الزوجية:
الصحبة والاقتران القائمان على الودّ والأنس والتآلف، إنَّ هذه العلاقة عميقة الجذور بعيدة الآَماد، إنها
أشبه ما تكون صلة للمرء بنفسه، بينها كتاب ربنِّا بقوله:
{هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}.
وهو يشير إلى أن هناك أمور كثيرة يقوم عليها بناء الأسرة المسلمة وتتوطَّد فيها العلاقة الزوجية،
وتبتعد فيها عن رياح التفكك، وأعاصير الانفصام والتصرم أهمها: الإيمان باللّه وتقواه، والخوف من
المطَّلع على ما تكنُهّ الضمائر، ولزوم التقوى والمراقبة، والبعد عن الظلم والتعسُّف في طلب الحق.
فالعلاقة بين الزوجين ليست علاقة دنيوية مادية، ولا شهوانية بهيمية، إنها علاقة روحية كريمة،
وحينما تَصِحُّ هذه العلاقة وتَصْدُق هذه الصفة، فإنها تمتد إلى الحياة الآخرة بعد الممات.
دور الزوج في الحفاظ على بيت الزوجية
المعاشرة بالمعروف
ويقول د. صالح بن عبد الله بن حميد إن مما يحفظ هذه العلاقة ويحافظ عليها.. المعاشرة بالمعروف،
ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة كل طرف ما له وما عليه، وإنَّ نُشْدَان الكمال في البيت وأهل البيت أمر
متعذر، والأمل في استكمال كل الصفات فيهم أو في غيرهم شيء بعيد المنال في الطبع البشري.
ومن رجاحة العقل ونضج التفكير توطين النفس على قبول بعض المضايقات، والغض عن بعض
المنغصات، والرجل - وهو رب الأسرة - مطالب بتصبير نفسه أكثر من المرأة، وقد علم أنها ضعيفة
في خَلْقها وخُلُقها، إذا حوسبت على كل شيء عجزت عن كل شيء، والمبالغة في تقويمها يقود
إلى كسرها وكسرها طلاقُها، يقول المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى
{واستوصُوا بالنساء خيرًا فإنهن خُلِقْنَ من ضلع، وإنَّ أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته،
وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرًا}
فالاعوجاج في المرأة من أصل الخلْقة فلا بد من مسايرته والصبر عليه.
فعلى الرجل ألا يسترسل مع ما قد يظهر من مشاعر الضيق من أهله وليصرف النظر عن بعض
جوانب النقص فيهم، وعليه أن يتذكَّر لجوانب الخير فيهم وإنه لواجد في ذلك شيئًا كثيرًا.
ويتساءل د. صالح: وكيف تكون الراحة؟ وأين السَّكَن والمودة؟ إذا كان رَبُّ البيت ثقيل الطبع، سيئ
العشرة ضيّق الأفق، يغلبه حمق، ويعميه تعجُّل، بطيء في الرضى، سريع في الغضب، إذا دخل
فكثير المنّ، وإذا خرج فسيئ الظن.
وقد عُلم أنَّ حسن العشرة وأسباب السعادة لا في اللين والبعد عن الظنون والأوهام التي لا أساس
لها، إن الغيرة قد تذهب ببعض الناس إلى سوء ظنّ.. يحمله على تأويل الكلام والشك في التصرفات،
مما ينغص العيش ويقلق البال من غير مستند صحيح.
دور الزوجة في المعاشرة بالمعروف
ثم يتابع .. " أما المرأة المسلمة: فلتعلم أن السعادة والمودة والرحمة لا تتم إلا حين تكون ذاتَ
عفةٍ ودين، تعرف ما لها فلا تتجاوزه ولا تتعداه، تستجيب لزوجها؛ فهو الذي له القوامة عليها يصونها
ويحفظها وينفق عليها؟ فتجب طاعته وحفظه في نفسها وماله، تتقن عملها وتقوم به وتعتني
بنفسها وبيتها، فهي زوجة صالحة وأم شفيقة، راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، تعترف
بجميل زوجها ولا تتنكر للفضل والعشرة الحسنة. يحذِّرُ النبي - r - من هذا التنكر ويقول:
{أريتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن قيل: أيكفرن باللّه؟ قال: لا. يكفرن العشير؛ لو أحسنتَ لإحداهنَّ
الدهرَ ثم رأت منكَ شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط}
فلا بد من دمج الزلاَت والغض عن الهَفَوات.. لا تسيء إليه إذا حضر ولا تخونه إذا غاب.
بهذا يحصل التراضي وتدوم العُشرْة ويسود الإلف والمودة والرحمة. و
{أيّما امرأةٍ ماتتْ زوجُها عنها راضٍ دَخَلت الجنة}.
المعاشرة بالمعروف
ويقول د.عامر بن عيسى اللهو الأستاذ بكلية المعلمين بالدمام إن من مظاهر عناية الإسلام
بالأسرة أنه أمر بالمعاشرة بالمعروف، قال تعالى:
{وعاشروهن بالمعروف}
ويقول سبحانه:
{ولهن مثل الذين عليهم بالمعروف}
وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية كالكلام الطيب والصحبة الجميلة، وكف الأذى وبذل
الإحسان، وحسن المعاملة، والصفح عن الزلات. ويضيف..: فما أحوج بيوتنا إلى تطبيق هذه
المعاشرة، وما أجدرنا أن نعوّد ألسنتنا على الكلام الطيب في حياتنا الأسرية، ومما يصل بالكلمة
طريقة إلقائها فقد تزيد هذه الطريقة إن كانت حلوة عذبة من تأثيرها وما أجدرنا أن نعوّد عضلات
وجوهنا الابتسامة التي تبسط أكثر المسائل تعقيداً ، وتمنحنا قوة في التغلب على كثير من
المصاعب.
وروى مسلم في صحيحه والحاكم في مستدركه واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل
علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلت: لا. قال: فإني إذا صائم،
ثم أتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله أهدي لنا حيساً فقال: أدنيه فلقد أصبحت صائما فأكل.
ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت: والله لقد كان ضحوكا إذا ولج سكوتا إذا خرج آكلا ما وجد غير
سائل عما فقد.
الشك والريبة
ومما يباعد بين الوفاق الوجداني بين الزوجين أن تبنى العلاقة الزوجية بينهما على الشك فهو إذا
تسلل إلى الحياة الزوجيّة أفسدها وهدّم بنيانها وصدّع فيها أركان الحب والألفة والودّ والرحمة.
وتوجيهات الإسلام جاءت لتبني حصناً منيعاً أمام هذه العاصفة الهوجاء فمن ذلك نهيه صلى الله
عليه وسلم عن ( ابتغاء الريبة ) وتتبع الناس بالشك، حيث جاء في حديث أَبي أُمَامَةَ رضي الله
عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
« إِنَّ الأمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ في النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».
وفي الحديث: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطال الرجل الغيبة أن يأتي أهله طروقاً.
متفق عليه . وفي الرواية الأخرى:
( نهى أن يطرق أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم ).
الخلاف .. ومعالجته
معالجة الخلاف بين الزوجين لابد أن تتم بحيثيات خاصة وإلا تباعد الوفاق بينهما وفي ذلك يقول
الباحث الإسلامي د. عبد الله عبد الكريم إن واقع الحياة وطبيعة البشر - كما خلقهم اللّه سبحانه،
وهو أعلم بمن خلق - قد يكون فيها حالات لا تؤثِّر فيها التوجيهات، ولا تتأصَّل فيها المودَّة والسَّكَن،
مما قد يصبح معه التمسُّك برباط الزوجية عَنَتًا ومشقةً، فلا يتحقق فيه المقصود ولا يحصل به صلاح
النشء؟ وهذه الحالات من الاضطراب، وعدم التوافق، وقد تكون بواعثها داخلية أو خارجية.
فقد ينبعثُ من تَدخُّل غيرِ حكيم من أولياء الزوجين أو أقاربهما، أو تَتبع للصغير والكبير من أمورهما،
وقد يصل الحال من بعض الأولياء وكُبرَاءِ الأسرة إلى فرض السَّيطرة على من يَلُونَ أمرهم، مما قد
يقود إلى الترافع إلى المحاكم؛ فتفشو الأسرار وتنكشف الأستار، وما كان ذلك إلا لأمرٍ صغيرٍ أو
شيء حقير؛ قاد إليه التدخُل غير المناسب، والبعد عن الحكمة، والتعجل والتسرُّع، وتصديق
الشائعات وقالة السوء.
وقد يكون منبع المشكلة قلة البصيرة في الدين والجهل بأحكام الشريعة السمحة، وتراكم العادات
السيئة والتمسك بالآراء الكليلة.
فيظن بعض الأزواج - مثلًا - أن التهديد بالطلاق أو التلفظ به هو الحل الصحيح للخلافات الزوجية
والمشكلات الأسرية، فلا يعرف في المخاطبات سوَى ألفاظ الطلاق، في مدخله ومخرجه، وفي أمره
ونهيه، بل في شأنه كله، وما درى أنه بهذا قد اتَّخَذ آيات اللّه هزوًا؛ يأثم في فعله ويهدم بيته ويخسر
أهله.
إذا فعندما تظهر أمارات الخلاف وبوادر النشوز أو الشقاق فليس الطلاق أو التهديد به هو العلاج.
وإنما إن أهم ما يُطلب في المعالجة: الصبر والتحمُّل، ومعرفة الاختلاف في المدارك والعقول،
والتفاوت في الطبـاع، مع ضرورة التسامح والتغاضي عن كثير من الأمـور، ولا تكون المصلحة والخير
دائمًـا فيما يحب ويشتهي، بل قـد يكون الخير فيما لا يحب ولا يشتهي ولكن حينما يبدو الخلل
ويظهر في الأواصر تحلل، ويبدو من المرأة نشوز وتَعَالٍ على طبيعتها وتوجهٍ إلى الخروج عن وظيفتها؛
حيث تَظْهر مبادئ النفرة، ويتكشَّف التقصير في حقوق الزوج والتنكر لفضائل البعل، فعلاج هذا في
الإسلام صريح، ليس فيه ذكر للطلاق لا بالتصريح ولا بالتلميح.
ويكون العلاج بالوعظ والتوجيه وبيان الخطأ، والتذكير بالحقوق، والتخويف من غضب اللّه ومَقْتِه، مع
سلوك مسلك الكَياسة والأناة ترغيبًا وترهيبًا.
وقد يكون الهجر في المضجع والصدود، مقابلًا للتعالي والنشوز، ولاحظوا أنه هَجر في المضجع وليس
هجرًا عن المضجع.. إنه هَجْر في المضجع وليس هجرًا في البيت.. ليس أمام الأسرة أو الأبناء أو
أمام الغرباء.
ومن المعلوم لدى كل عاقلٍ أن القسوة إذا كانت تعيد للبيت نظامه وتماسُكه، وتردُّ للعائلة ألفتها
ومودَّتها فهو خير من الطلاق والفراق بلا مِراء؛ إنه علاج إيجابي تأديبي معنوي، ليس للتشفي ولا
للانتقام؛ وإنما يستزل به ما نشز، ويقوم به ما اضطرب.
وإذا خافت الزوجة الجفوة والإعراض من زوجها فإن القرآن الكريم يرشد إلى العلاج وهو الصلح
والمصالحة، وليس بالطلاق ولا بالفسخ. وقد يكون بالتنازل عن بعض الحقوق المالية أو الشخصية
محافظة على عقدة النكاح.
أي أن العلاج بالصلح والمصالحة، وليس بالطلاق ولا بالفسخ. وقد يكون بالتنازل عن بعض الحقوق
المالية أو الشخصية محافظة على عقدة النكاح.
( والصلح خير )
أي خير من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق.
هل ثمة ما يمكن أن نختم به هذا الموضوع ؟
نعم .. وهو التذكير بأن صلاح الأسرة طريق أمان الجماعة كلها، وهيهات أن يصلح مجتمع وَهَنتْ فيه
حبال الأسرة. كيف وقد امتنَّ اللّه سبحانه بهذه النعمة.. نعمة اجتماع الأسرة وتآلفها وترابطها
إن الزوجين وما بينهما من وطيد العلاقة، وإن الوالدين وما يترعرع في أحضانهما من بنين وبنات
يمثلّان حاضر أمة ومستقبلها، ومن ثم فإن الشيطان حين يفلح في فَكِّ روابط أسرة فهو لا يهدم بيتًا
واحدًا، ولا يحدث شرا محدودًا، وإنما يوقع الأمة جمعاء في أذى مُسْتعر وشرٍّ مستطير. والواقع
المعاصر خيرُ شاهد.
يقول الله تعالى :
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ}.
فرَحِمَ اللّه رجلًا محمود السَيرة، طيِّب السريرة، سهلًا رفيقًا، ليِّنًا رؤوفًا، رحيمًا بأهله حازمًا في
أمره، لا يكلف شططا ولا يرهق عُسرًا، ولا يهمل في مسؤولية.
ورَحِمَ اللّه امرأة لا تطلب غلطًا ولا تكثر لغطًا صالحةً قانتةً حافظةً للغيب بما حفظ اللّه.