بعض الحب مَهابة ..
يصل المرء إلى مرحلة أحيانا يظن فيها أن كل تجاويف قلبه مجتمعة لن تقدر على ملاقاة هذا النبض الجميل ..
يخيل إليه أنه لا يستحقه ..
و أن قلبه أصغر من تحمل تبعاته و أنه سينوء بثقل سهره و حرقة آهاته..
فتستكين جوارحه مستسلمة لبيات أزلي..
و تسترخي أهداب مشاعره في تراخ و كسل..
و يروح جُلَ فؤاده في تهويمة يجتر معها مسالك إحساسه القديم ..
يتنسم عبقها الذي يراوح محله ..
يتخيل أوراقها الخريفية التي تساقطت رويدا رويدا ..
صفراء ممتقعة و كأنها تعلن الحداد على شلال كان متدفق الهمس الأنيق ،،
و تندب نبعا جف معينه و نضب رافده ..
يرسم في فضاءاته لوحة تملؤها تلكم العصافير التي كانت تقفز من غصن إلى فرع ..
تملأ المكان نشيدا محببا ..
و يلون أفق ذاك الفؤاد فيما يلون .. بلون الغسق تارة ..
و تارة بلون الشفق.. يسدله ستارا يرخي سدوله على رسْم المعشوق و يحتويه ويذوب فيه إلى ما لا نهاية ..
يدَّخِره رحيقا بين طيات وريقاته ..
و يُساقِطُه قطرات من ندى منزلقة على حافة زهرة ندية ..
و يركمه رذاذا بين طيات سحائبه و غمامه في إنتظار هَبة من نسيم المحبوب ليندلق وَلَهَا و ينهمر عشقا ..
عندما يصل المرء إلى هذه المرحلة .. .. فإن الحب يصبح شيئا مُهابا ..
لا يحتمله قلبه الذي أدمن الضياع السرمدي و إستمرأ التوهان في مجاهل الذكرى و الحزن قديمه و جديده..
و أدمن الحسرة التي تحرق و لا تَذَر..
فما أن تلوح بشائر هذا العشق الوليد.. تنثر الفرح من حوله ..
حتى يحس نبضا غير النبض... و وجيبا غير الوجيب .. و مذاقا آخر لم يألفه .. لكنه يكابر محاولا بإستماتة أن يقنع نفسه بأن الزائر الجديد قد أخطأ العنوان ..
و هو في قرارة نفسه يتمنى أن يحط الزائر رحاله و يستوطن حدقات عينيه ..
و يجعل له من غرف القلب متكئا و من أركان الكيان مرتعا ..
يهجع إلى نفسه ..
فتتمرد روحه العطشى ..
و يتمنى لو أن له جناحى طائر يقطع الفيافي ليقف أمام نافذتها ..
ينقر زجاجها ..
يوقظها برفق و أناة ..
و يرقد مستكينا على راحتها ..
يتمسح في أناملها ..
يبثها الكامن بين جوانحه ..
يملي نظره من عينيها ..
و يتوه في مجاهل إبتسامتها ..
يركن إلى هذا الطارق الذي ظن أنه قد نسى الدرب المؤدي إلى مسام إحساسه .. فيأخذه بين أضلعه ..
يفرشها له مهادا ...
يفرح به فرحة طفل بجديده يوم عيد ..
يخاف عليها من نفسه..
يضعها في خياله في صدفة حرصه و يغوص بها في أعمق أعماق بحوره ..
يحتويها في قوقعة رعايته ..
و ينمو على أطرافها طحالبا و أعشابا يُمَوِه بها على المتطفلين ..
يأتيه صوتها و كأنه ينبع من قاع كيانه ..
كشيء قديم إنساب و تجول في دواخله منذ ولادته كتعويذة مقروءة على أذنيه إستقرتْ في قاع عقله تأبى أن تفارقه فتقرع في همس خفيف كقرْع أجراس نحاسية صغيرة تجعل تفاصيل كامنة و مخبوءة تتشابى للقفز على سطح الخيال ..
تتفرع في جسده أوردة و شرايينا .. تمده بأسباب العافية ..
هذا الإحساس المهاب
يجعله يحس بنبضه كطقطقة حبات مسبحة تلهج بإسمها ..
ينادي مَن حوله بإسمها .. و يسمي الأشياء بمعاني إسمها ..
تشبه في خاطره كل مَن يقابل في طريقه ..
تغوص بأكملها في تفاصيل حياته ..
و لكنه يهاب .. و يخاف .. من هذا الطارق الذي أوقظه من سباته ..
فيغيب و يغيب و يبتعد .... لتسأله : .. لم إبتعدت بعد أن كانت اللقيا قاب قوسين أو أدنى ؟
فيقول و هو كالمسحور :
أو تسأليني لم إبتعدت؟
وانا الذي يطالني الحزن حتى سقف الحلق...
غيابك يأخذ من الاشياء لونها ويتركها غبـشاء..
أفكر ألف مرة ..
وأسوق ألف عذر لهذا الابتعاد دونما إقتناع ..
لكني أعود أكثر اضطرابا .. وأشد خواء .. و أعمق حيرة ..
تصفر الريح بين جنباتي .. فتتركها موحشة .. كصحراء ماتت شجيراتها قبل أن تفرهد أغصانها ..
أعيش بين ( مد ) الأمل و ( جزر ) اليأس ..
وتتدحرج شجيرات من الشوك على عيني
و رغم كل هذا و ذاك ..
أحتاج إليك ... إليك أحتاج .. ( أيهما أقرب ؟ ) ..