مصر الباقية.. ونحن الراحلون.
ظلت مصر على مدار التاريخ نموذجًا في الترابط والتماسك وفي الوحدة الوطنية والنسيج الواحد, كان يحسدنا كثيرون من البلاد المجاورة على نعمة الأمن والاستقرار, ربما كنا نعاني من ظروف اقتصادية صعبة, ولكن دومًا كنا نتغلب عليها بالرضا والقناعة, وتربينا على كثير من القيم والمبادئ فلم نكن نجرؤ أن تعلو أصواتنا على أصوات من هم أكبر سنًا توقيرًا لهم, فضلًا عن الرحمة في التعامل مع الصغير, كنا نتصف بالشهامة والمروءة .. كان نموذج "ابن البلد" في كل شارع وحارة وزقاق ومدق.. كنا لا ننام إلا بعد أن نطمئن على جيراننا ولم يكن تطفلًا ولكنها كانت محبة وود.. وكم كان جميلًا عندما كنا نتبادل أطباق الطعام التي وإن كانت بسيطة في قيمتها الغذائية بحكم "قصر اليد" إلا أنها كانت عظيمة في معانيها.. كنا نطبق حسن الجيرة بوصفهم الأقربين الذين تربوا معنا على الحلوة والمرة.. تعفرت وجوهنا سويًا بتراب الحارة أو الشارع ونحن نقذف بالكرة سويًا عندما كنا أطفالًا صغارًا نلهو ببراءة وأمل.. وتطلخت ملابسنا بطين هذه الأرض تحت أمطار الشتاء الجميلة التي منحت قلوبنا الدفء متحدية أنواء وعواطف وبرودة الجو.. نهرول سريعًا لنروي ظمأنا من مياه النيل الذي يجدد سحره في ليالي الصيف الرائعة ونسائم الهواء العليل بداخلنا طاقة من التآلف والتراحم والحب.. هكذا كان أبناء مصر.. أبناء هذه الأرض الطيبة.. أحفاد الفراعنة العظماء.. لم يعرف أجدادنا ولا آباؤنا معنى التناحر.. لم ينقسموا أو يتصارعوا أو يتقاتلوا من أجل منصب أو جاه أو من أجل حزب أو جماعة أو تيار ديني أو سياسي.. لذا بنوا هذه الحضارة العريقة.. التي ظلت 7 آلاف سنة ومازالت تبهر العالم بكثير من المعجزات التي يقف أمامها العلم الحديث مذهولًا.
دعونا نعترف ولا نضع رؤوسنا في الرمال كالنعام.. نعم تغيرنا كثيرًا وفقدنا كثيرًا من المعاني الجميلة والقيم والمبادئ التي تربينا عليها.. نعم فقدنا الأمان.. نعم نحن محبطون ولا نرى ولو شعاعًا في طريق الأمل.. مات فينا الطموح والرغبة في الإحساس بطعم الأشياء.. كلها صارت مرة كالعلقم..
ومر الزمان وتدهور الحال بعد فترة من التراجع الكبير بتاريخنا أدت لكثير من المشاكل مثل البطالة وانتشار الجريمة وتفشي الأمراض وانهيار الخدمات مما أصاب مصر بنكسات كثيرة حتى استفاق المصريون وانتفضوا في 25 يناير مطالبين بالعيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية, وتخيلنا جميعًا أننا سنبدأ عهدًا جديدًا بآمال وطموحات عريضة ولكن رغم اقتراب العام الثاني على الثورة من الرحيل وجدنا أنفسنا في مأزق كبير نتيجة تواصل الاضطرابات السياسية التي لم تهدأ على رغم تولى الرئيس محمد مرسي مقاليد الحكم كـأول رئيس مدني منتخب وتفاقمت الأزمات حتى بلغت مداها عقب الإعلان الدستوري الأخير.. ولكن حتما سنجتاز الأزمة.. وسنعبر الصعاب.. مصر الباقية.. ونحن الراحلون.
راقنى