يقول أفراد أسرتي بأنني فتاة مدللة ،،و أن أبي يلبي كل طلباتي.
و أناأخالفهم الرأي تماماً ،، كل ما في الأمر أنني كثيرة الطلبات و طموحة جداً ،، ورغباتي في حدود الضروريات التي تواكب إيقاع العصر..
آخر مرة قالوا فيها أنني مدللة عندما تعلمت الكمبيوتر و طلبت من أبي العزيز جهاز (كمبيوتر) فيالبيت.
أدمنت هذا الجهاز حتى مَلَكَ وقتي و أنساني كل ما حولي.
لا أغادرالبيت إلا للضرورة القصوى.
تناديني أمي حتى تيأس من حضوري.
أنام وأنا أتخيل ما قرأت و ما كتبت و ما سأكتب.
تعرفت على صديقات كثيرات من شتى بقاع الأرض.
عالم آخر لا حدود له..
لم يَخْلُ الأمر من معاكسات و غزل و رسائل غرام.
أتسلى بها ،، لا أرد عليها،، بعض الرسائل ترضي غروري ،،تملؤ نفسي زهواً و فخراً ،، و بعضها يجعلها تتوه بعيداً و تسبح في عالم من الأحلام الوردية .
استشاط أخي غضباً عندما فتح صندوق رسائلي في بريدي الاليكتروني و وجد فيها حزمة رسائل غرامية.
أقنعته بعد جهدجهيد
قال : إذن لم تحتفظين بها ؟ أحذفيها كلها و إلا أخبرت أبي.
أقنعته بعدلأيٍ و جهد.
يضحك مهزوما عندما أصل معه لنقطة إقناعه ،،
ليلتها كنت ساهرة ،،أتصفح موقعا مميزا على الإنترنت ،،تلتهم عيناي الأسطر و الكلمات و الأسماء
لفت نظري كاتب يستعمل إسما غريبا ،،و لكن كتاباته لفتت نظري بقوة ،،
فتتبعت كل ما كتب قديما و حديثا
كلماته تنساب عبرالعقل بهدوء ،، و كأنها تطرق الباب بغصن وردة.
أسلوبه ينساب كشلال هاديء ،،يستأذن منطقك قبل أن يضطجع في قاع ذاكرتك و يربت على أعصابك و يصيبك بخدرأخاذ
صرت مشدودة إليه من حيث لا أدري ولا أدري.
تركت كل المواضيع ،، و تركت الردود ،، و صرت مدمنة على كتاباته.
بأصابع مرتعشة ،، كتبت له يوما تعليقا على إحدى مواضيعه رفيعة المستوى.
رد علي قائلا : أحسست في ردك بأنك قريبة جدا مني ،، أرجو أن تداومي على ردودك ،،فقد أعطاني ردك دافعا اليوم للمزيد من الكتابة ،، و أقولها لك هذا بكل صدق.
كمن ينظر إلي من خلال الشاشه ،،شعرت بأنه ينظر لمفاتيح اللوحة فيجهازي و أنا أنقر عليها ،،و كأنه فاجأني في غرفة نومي دون أن يطرق الباب ،،
أصابتني رعشة المفاجأة.
أنظر للشاشة و كأن وجهه يطل منها علي و يبتسم في وجهي
ترى ،،، كيف شكله ؟؟؟
سؤال يقبع في مقدمة نافوخي.
رسمت له عشرات الوجوه ،، و عشرات الأحجام ،،تنامَى إلى سمعي صوته.
مَوْسَقْتَ صوته على حسب ما ترتضيه أذناي.
أخرج خارج المنزل ،، فأتصفح الوجوه ،،
جنون ما بعده جنون.
و لكنه جنون محبب.
هل يمكن أن يكون هذا ؟ لا،، هذا وجهه صارم و لا يمكن أن يكون ذلك الرقيق بهذه الصرامة.
ربما يكون هذا ،،لا ، لا يمكن ،فهذا وجهه يدل على أنه هزلي،، و لا يمكن أن يكون ذاك الجاد في كتاباته هزليا.
أرهقني تفكيري ،، فقد عشعشت شخصيته في أغصاني الممتدة نحوالمجهول.
سخرت من نفسي : ما هذا الجنون ؟ هل أقع في حب شخص وهمي؟؟؟ شبح ؟؟؟
ربماكانت الشخصية امرأة مثلي.
انكمشت على نفسي من هذه الفكرة.
راجعتُ كتاباته ،،
لا يمكن أن تكون هذه الشخصية امرأة.
قاطعت الجهاز عدة أيام ،،أنظر إلى الشاشةالمعتمة و كأنها تستجديني البدء في التشغيل.
تتراءى كلماته رغم عتمةالشاشة.
تدغدغني أناملي لمصافحة اللوحة ،، تزدحم في أذني نقرات أناملي عليها.
و فتحت الجهاز ،، و قلت له :
أنا أتعذب ،، لقد جذبتني كلماتك كما السحر ،، لا أدري ماذا حل بي ،، أتظن أنه يمكن أن نحب عبر هذا الجهاز؟
أطال الصمت ،،لم يرد ،،فكررت عليه السؤال بشكل مختلف :
أنا فتاة صريحة ،، فكن صريحا معي ،هل تشعر بشيء نحوي ؟ هل تحس بشيء عندما نتخاطب عبرالجهاز ؟
لم يرد ،، هل يمثل دور المتأني ؟ أم أن به شيء ؟
ربما كان مريضا ،، ربما حدث له مكروه
قلت في نفسي : ما هذا أيتها المجنونة ،، أتجزعين على شخص لا تعرفينه إلا من كلماته عبر جهاز ؟
لا ،، لا ،، و لكن هذا تغلغل في حنايا نفسي بطريقة لا أدري كنهها ،،يلح على عقلي ،،أرى كلماته وأنا مغمضة العينين ،،أردد كلامه عن ظهر قلب ،، اُمَنْطِق الأمور بعقله ،،أنظر للدنيا بمنظاره ...
ألْغيْتُ كل قناعاتي
و تعلقت بأهداب أفكاره
رد علي في اليوم التالي .. :
لقد قرأت رسائلك ،لم أرد حتى أعرف حقيقةمشاعري ،و هاأنذا أرد عليك و أقول لك ،، بأن حبك في قلبي يزداد يوما بعد يوم ، فهل هناك سبيل إلى لقاء حتى نحسم هذا الأمر على أرض الواقع ؟؟؟؟
و بلهفة طفولية قبّلتُ الشاشة قبلة طويلة ،، و رددت عليه :
لا أدري ربما أراد الله أن نلتقي عبر كلماتك ،، هل يمكن أن أراك غدا ؟؟؟
اختلقت عذرا لوالدتي و خرجت ،،و دقات قلبي تتسارع كلما اقتربت من المكان
وقفت أنتظره ،، فقد قال أنه سيأتي بعربة تويوتا حمراء اللون
مرت عربة تويوتا بيضاء اللون ،، خفق قلبي ،، ثم سكن.
تصببت عرقا ،، جاءتني لحظة هممت فيها أن أهرب راجعة إلى بيتي
يا لي من جبانة ،، لا بد أن أصمد للنهاية ،،
ربما كانت شخصيته غير تلك التي تكتب.
وصلت العربة ،،شخصت ببصري نحو الجالس خلف المقود ،،كان رجلا فوق الخمسين ،،
أحسست بأن قلبي قد غاص إلى أخمص قدمي
قررت لحظتها أن أهرب بالفعل.
نزل الرجل و دار حول العربة من أمامها و فتح الباب لشخص آخر لم أره في البداية.
نزل الشخص ،،فإذا بالعجوز يدفع أمامه بشخص على كرسي متحرك.
كان شابا له وجه مثل بدر التمام ،،ممتلئ صحة و عافية ،، و لكنه على كرسي متحرك.
نظر إلي ،، وجدت في وجهه عشرات التعابير التي رسمتها له. لم أستطع أن أحوّل نظري عنه.
امتلأتُ زهواً رغم حاله التي كان عليها.
فقد صدق حدْسي
لم تخذلني توقعاتي
و رغم كل شيء فرهد فرح غريب بدواخلي .. فرح غامر ملأالمكان بحيث لم أر غير الكرسي و الجالس عليه ..
كان ينظر إلي و كأنه ينتظر حكم القاضي أو نتيجة إختبار ،،ركز عينيه على عيني ليرى تعابير وجهي.و بدون تردد ،، تقدمت منه و سلمت عليه و عرفته بنفسي ،،
و قلت للعجوز : إنت ممكن تمشي
و دفعت الكرسي أمامي برفق و جلسنا على أول مقعد
ما أنفك ينظر إلي ،،
ما زال متوجسا
قلت له : كما قلت لك من قبل،، أنا فتاة صريحة ،، بالطبع لم أتخيل أنك على كرسي متحرك ،، و لكنني رسمت لك عشرات الصور ،، نظرت إليك الآن و كأنني أعرفك منذ زمن بعيد.
قال و إبتسامة ساحرة تملأ وجهه الجميل : ألست بنادمة الآن ؟
قلت بحسم : لست بنادمة ،، فقد عرفت روحك قبل أن أرى ملامحك ...
لم أستطع تحويل نظري نحوه .....
أردته أن يتكلم ويتكلم ...
و لكنه كان مشدوهاً من ردة فعلي التي ربما لم يكن يتوقعها
في حلقي سؤال عن سبب استعماله الكرسي ،، و لكنني أحجمت عن سؤاله حتى لا أنكأجرحاو تعددت لقاءاتنا ،،في كل مرة ينزله السائق ،،فأقوم بدفع الكرسي أمامي و هو يلتفت نحوي مرارا و هو يواصل حديثه عن آخر ما كتب و عن ردودي عليه ،،لا يسكت أبدا ،، و كأنه يمشي بعقله و يستعيض عنه بدلا عن ساقيه شخصيته هي نفسها ،،لم تتغير نفسيته بعد هذا الحادث اللعين الذي أقعده ،،نفس الروح الطيبة المسالمة المملوءة بحب الحياة و الناس
فكرت كثيرا ،،
قلّبْتُ الأمر من جميع جوانبه
لم أُشْرِك أحدا في الأمر
فالأمر يعنيني .. و يعنيني وحدي
هذا مستقبلي و أنا التي أحدد مساره
ثم حزمت أمري
و حدثت أمي ،،
فرحتْ كثيرا و زغردت زغرودة ملعلعة
و لكن بعد أن عرفت أنه على كرسي ،ذعرتْ و لطمتْ و ولْولت..
و رجتْني طيلة اليومأن أنسى الموضوع ،،
بكتْ طويلا
تذكرني بآمالها في أبن الحلال الذي رسمته في خيالها لي ...
قالت أنني أستأهل من هو أحسن ،،نظرت إليها معاتبة ،،
معذورة أمي ،، فهي لا تعرفه
و لكنني كنت قد رسمت طريق حياتي
و هي تعرف إصراري إنْ أردت شيئاً ...
و كان هذا مبعث قلقها و خوفها ..
وقفت بصلابة أدافع عنه أمام الأسرة
إجتمعت الأسرة ،، و هاجوا و ماجوا ،،و قالوا لأبي : هذه نتيجة الدلع و التدليل ،،و إقترح أخي أن يمنعوني من الكمبيوتر و من رؤيته و التحدث إليه و أن يحزم أمره و يزوجني إبن عمي الذي لا زال على أمل أن أرضى به.
و لكن أبي نظر إلي مليا ثم قال بكل هدوء :
هل تقبلين به زوجا ؟
قلت بسرعة : نعم
فقال بحزم و حسم : إذن على بركة الله
بالطبع ذهل الجميع و خاب أملهم في إثنائي عن رغبتي ...
و تمت الخطبة بشكل مبسط و فيحدود الأسرتين و بعض الأهل فقط.
كنت كمن ملك الدنيا ...
أو كمن وصل إلى حافةأمنياته و وقف على جرْفٍ عالٍ ينظر إلى بقية الناس ضاحكا متهللا ليشاركوه فرحته...
قبلتني أمه قبلة كلها أمتنان و هي تقول و الدمع يملأ عينيها :
لا أدري كيف أشكرك ،، أنت أجمل هدية لأسرتنا كلها ،، ستكونين بيننا جوهرة مصونة و درة مكنونة ،، فأنت فتاة أصيلة و نادرة الوجود في هذا الزمن
و لم تستطع أن تكمل وعانقتني طويلا و أنا أسمع شهيقها المكتوم
ليلتها كان هو كمن يمشي على قدمين من شدة فرحه ،،
كأنه ملك يقبض بصولجانه
يشع من عينيه بريق الإنبهار ...
فرحته كانت كبيرة و أنا أقف بجانبه مستندة على الكرسي ... أنحني لأسمع تعليقاته و تعريفه بأفراد الأسرة ...
شابات من أسرته كن ينظرن إلي نظرات غريبة لم أستطع أن أفسرها
لا أعرف ،، إنكان يحسدنني عليه ،،أم شامتات من قبولي برجل علىكرسي
لا يهمني هذا و لا ذاك ،، فأنا سعيدة للغاية
عشت أجمل أيام حياتي و أناأدفعه أمامي في كل المناسبات ،،أشعر بزهو كبير ...
يقرأ لي ما سيكتب قبل نشره و يسألني رأيي
ترك لي أمر تحديد موعد الزواج
أمي لا تحدثني كثيرا ،، فهيلا زالت غير راضية
أبي يتابعني و كأنه يراقب تجربتي
صحوت ذلك اليوم ،،و بدواخلي كآبة لا أدري سببها ،،شيء ما يعتصر قلبي ...
حواسي كلها متحفزة لأمر ما قد يحدث ...
رن جرس التلفون
فانتفضت مذعورة ...
قال باقتضاب : السائق سيكون عندك بعد قليل
قلت : هل آتي معه ؟ وما بال صوتك ؟
قال : لا ،، أرسلت لك شيء معه
قلت : هل هي مفاجأة؟؟؟
لم يرد ،، و قال بعد برهة : ستعرفين عندما يأتي
كانت في صوته رنةغريبة
خفق قلبي بشدة
أحاول طمْأنة نفسي بشتى السبل دون جدوى ..
قلبي يحدثني بأن وراء الأكمة ما ورائها
فتحت الباب للسائق و أنفاسي تتلاحق أعطاني مظروفا مغلقا،،فتحته بلهفة
وجدت دبلتي بالداخل ،،
فقط الدبلة
انتابني ذهول فوقفت كالمصعوقة ،،
لم أشعر بالسائق و هو ينطلق بالسيارة بعيدا
هاتفته : ما هذا و لماذا؟
قال يإيجاز حاسم: إقرئي الرد على الجهاز
هرعت إلى الجهاز كالملسوعة ،،فوجدته يقول :
حبيبتي ،، أغلى من في الوجود
لم أكن أحلم يوما بعد الحادث أن أجد فتاة في جمالك و وعيك و واقعيتك وروحك الطاهرة ،،
أنت أكثر من أحلامي .. بل حلم تحقق
أنت سحابة لا تستحق أرضي أن ترتوي بقطراتها الندية ،،أنت تستحقين رجلا تفاخرين به ،، تضعين يدك في يده و تنطلقان سويا في دروب الحياة ،،و ليس رجلا تدفعينه أمامك كالعبء الثقيل ،،أدري ماذا ستقولين ،، و لكن أرجو أن توظفي واقعيتك في فهم حالتي ،،أصدقك القول ،، أنني عندما قررت فسخ خطوبتي ،،قررت بعدها على الفور عدم الزواج نهائيا ،، لأنني لا أحتاج إلى مساعد ،،و لو كنت سأتزوج كنت سأتزوجك أنت دون غيرك،، أرجو أن تتفهمي الأسباب بعقل مفتوح ،، فأنا سأعيش على وقع روحك مستلهما ماأكتب ،،سأنشيء أسرة من أيامي السعيدة التي عشتها معك ،،كل قصة سأسميهاإسما من حروف إسمك ،،فهي لن تعرف أن كاتبها مقعد على كرسي ،،أما أنت فتستحقين زوجا تتباهين به و يتباهى به أولادك و ليس مقعدا يسرق زهرة شبابك فيخدمته،،أرجو أن لا تتصلي فالأمر نهائي و قررته بعد تمحيص شديد ،،وبالمناسبة ،، قلت لأهلي بالبيت إنني أنا الذي قررت هذا حتى تظلين كما أنت في نظرهم،، فأرجو أن تقولي لأسرتك بأنه قرارك أنت و أنت تعرفين السبب
إنتهت رسالته ،،هاتفته ،،فقالوا أنه لا يرد على أي مكالمة
أرسلت له عدة رسائل كان آخرها : حبيبي ،، النظرة الدونية للناس من خلال حالتهم الصحية أو مظهرهم ليس في أجندتي ،، و أستطيع أن أغذي أطفالي على هذه المبادئ
لم يرد ،، تركني هائمة في بحر من الألم أتجرعه وحدي
حاولت كثيرا دون جدوى ..
لم أكترث لكبريائي .. فحاولت أن أراه في بيتهم .. و لكن والدته أكدتْ لي أنه في حالة نفسية سيئة ..
قلت أنني يمكن أن أقنعه وجها لوجه ..
رفض أن يفتح باب غرفته ..
وجدتها أمي فرصة .. فمنعتني من الخروج بمعاونة أخي ..
هل أخبركم بشيء ؟ لقد تخلصت من الكمبيوتر و لم أعد أقرأ شيئاو لكن رغم هذا لا زلت أحلم به ..
يزورني كثيرا في أحلامي ..
حتى في أحلام يقظتي ،
أجلس لأجْبِر خياله إجباراً كى يتراءى أمامي و أجلس أنسج مستقبلا مستحيلاً ..
مستقبلاً كان قاب قوسين أو أدنى من أن ألمس سقفه ..
صوته لا زال يسحبني أمامه تماما كما كنتُ أسحبه على الكرسي.صرتُ مُقْعَدة أمشي على قدمين ... و لكن على غير هدى ..
و كأنني أمشي على وسادة من هواء ..
***
إنتهى
جلال داود ( الرياض 2005م )