شالرحمة في السنة
إنَّ عِظَم مفهوم الرحمة في الإسلام يفسِّر لنا الكثير من الأحاديث التي ذكرها رسول الله، والتي تصف رحمة رب العالمين.. فيروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ"[1].
فهذا إعلانٌ واضح أن الرحمة مقدمة على الغضب، وأن الرفق مقدم على الشدة، وليست هذه الرحمة الغامرة في الدنيا فقط، بل إن الرحمة الأعظم والأشمل ستكون يوم القيامة، وهذا ما بشَّرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ؛ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ"[2].
إن الأمر غير متخيَّل فعلاً، والله جعل الرحمة يوم خلق السموات والأرض، أي أنه جعلها قبل أن يَصدُرَ أمرٌ إلهيٌّ بأفعال العباد، بل قبل أن يخلقهم أصلاً، وهذا من عظيم فضله، وواسع جوده، بل إن النص القرآني العظيم يشير إلى أن هذه الرحمة قد كتبها ربنا على نفسه..
قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54].
إنها الحقيقة التي لا ريب فيها..
يقول الإمام الطبري[3] -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "قضى سبحانه أنه بعباده رحيم، لا يَعْجَل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة، وهذا من الله -تعالى ذِكرُه- استعطاف للمُعرِضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة"[4]. رحمة للعالمين
فإذا أضفنا إلى كل ما سبق أن الله تعالى وضَّح الهدف من الرسالة والبعثة بأنه فقط <a >رحمة للعالمين، وذلك حين قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
إذا أضفنا هذا المعنى إلى كل ما سبق أدركنا حقيقةَ أنَّ أقوال وأفعال رسول الله ما هي إلا ترسيخ لمعنى الرحمة، وما هي إلا تطبيق فريد لهذا الخُلُق العظيم في كل كلمة من كلماته ، وفي كل حركة من حركاته..
إنَّ رسول الله ما بُعِثَ إلا لهذا الأمر، كما تشير الآية.. بل إنَّ الطبري رحمه الله يرجِّح أن هذه الرحمة تشمل المؤمنين والكافرين، فيقول بعد أن يعرض اختلاف العلماء في قضية هل تشمل هذه الرحمة المؤمنين فقط أم المؤمنين والكافرين: "وأَوْلى القولين في ذلك بالصواب: أن الله أرسل نبيه محمدًا رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنةَ، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله"[5].
ويؤكد على هذا الفهم أن الرسول لم يُبعَث لقومٍ معينين دون قومٍ آخرين، إنما بُعِث -على خلافٍ ما حدث مع مَن قبله من الأنبياء- إلى الناس عامة..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّة"[6].
فهذا تصريح منه أن رسالته لكافة أهل الأرض، وبالتالي فهي رحمة للعالمين..
عند وضع كل هذه الخلفيات في الذهن، فإننا نفهم سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، ونفهم أقواله وأفعاله.. إنه كان ينطلق من هذه المبادئ المهمة:
إن الله رحمن رحيم..
وإن رسول الله هو الرحمة المهداة إلى العالمين..
وإن الرسالة في أصلها وطبيعتها رحمة بالناس أجمعين.. الرحمة في حياة الرسول
من هذا المنطلق أيضًا جاءت كلماته في قضية الرحمة عمومية شاملة.. تحوي مع قلة ألفاظها معانٍ هائلة، وتشمل مع إيجازها المعجز كل من يعيش على ظهر الأرض..
قال رسول الله : "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم"[7].
هكذا على إطلاقها تأتي العبارة، مَن لا يَرحم العباد -دون تحديد ولا تقييد- لا يرحمه الله ..
ويقول أيضًا: "ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ"[8].
وكلمة "مَنْ" تشمل كل مَن في الأرض..
ويقول كذلك: "إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"[9].
إن الرحمة التي ظهرت في كل أقوال وأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن رحمة مُتكلَّفة، تحدث في بعض المواقف من قبيل التجمل أو الاصطناع، إنما كانت رحمة طبيعية تلقائية مُشاهَدة في كل الأحوال، برغم اختلاف الظروف، وتعدُّد المناسبات..
لقد رأينا رحمة الرسول مع الكبار والصغار، ورأيناها مع الرجال والنساء، ورأيناها مع القريب والبعيد، بل ورأيناها مع الصديق والعدو.. رحمة الرسول بالحيوان
بل إن رحمته تجاوزت البشر لتصل إلى الدواب والأنعام، وإلى الطير والحشرات..
إننا نرى في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يرحم الهِرَّة.. فيُخبِر أن امرأة دخلت النار لقسوتها على هرة!! يقول : "دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ"[10].
بل نرى في سيرته صلى الله عليه وسلم أنه يخبر عن زانية غفر الله لها لتحرك الرحمة في قلبها لكلب! قال : "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ"[11].
إن هذا المثال السابق ليدلنا أشد الدلالة على اختلاف الموازين والمقاييس في أذهاننا عن حقيقتها التي هي عليها.. فكلنا يقول: وما كلب ارتوى إلى جانب جريمة زنا!! بل إنها ليست جريمة زنا واحدة! إنَّ المغفرة كانت لِبَغِيٍّ احترفت الفاحشة!! إن رحمة الله واسعة، والراحمون يرحمهم الله ، والذنوب تتصاغر أمام رحمته ، ولكنه سبحانه لا يرحم إلا الراحمين..
هذه هي المقاييس الصحيحة، والموازين الدقيقة التي بها تُقَّوم الأعمال..
لذلك تدخل امرأة النار في هِرَّة، وتدخل أخرى الجنة في كلب!!
إن القضية ليست قضية الآثار المترتبة على الفعل، فلعلها هنا قليلة ومحدودة بالحيوان الذي جاء في القصة، ولكن القضية حقيقةً هي ما وراء الفعل، وهي الرحمة التي في قلب الإنسان، وعلى ضوئها تكون قراراته وأعماله..
لقد رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيوان الأعجم من أن يُجوَّع أو يُحمَّل فوق طاقته.. فقال في رحمة بالغة حين مَرَّ على بعير قد لحقه الهزال: "اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً"[12].
بل هو يرحم الحيوان حتى في حالة ذبحه، فإن كان لابد أن يُذبَح فلتكن عملية الذبح هذه رحيمة، فيقول: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ"[13].
بل إنه يتجاوز البهائم إلى الطيور الصغيرة التي لا ينتفع بها الإنسان كنفعه بالبهائم، وانظر إلى رحمته بعصفور!!
يقول رسول الله: "مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ إِنَّ فُلانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَةٍ"[14].
ولسنا نقصد هنا الحصر، بل هي مجرد أمثلة، والحديث في ذلك يطول ويتشعب..
إنها ليست رحمة خاصة بالبشر فقط، إنما هي رحمة بكل الخلق.
وفوق كل ما سبق ينبغي أن نشير إلى أن رحمته قد شملت ما لا روح فيه أصلاً!! رحمة الرسول بالجماد
إنه يتعاطف مع جبل أُحُد، الصخر الأصم، ولا يريد للناس أن تتشاءم منه لحدوث مصيبة للمسلمين عنده، ولا يريد لهم أن يكرهوه دون جريرة ولا جريمة!..
فقال ، وهو يشير إلى جبل أُحد: "هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ"[15].
أية رحمة.. وأي رفق.. وأي عطف.. وأي حنان!!
إنه يرحم الحياة بكاملها..
يرحم من يعرف ومن لا يعرف..
إنه يُطَبِّق ما أراده الله مِنْ خلقه ولخلقه..
إنه -سبحانه- أراد منهم الرحمة، وأراد لهم الرحمة.. حقيقة الإسلام
هذه هي رسالة الإسلام في حقيقتها، وهذا هو رسول الله في حقيقته..
إن الناس لا تفهم الإسلام حق الفهم..
إنهم قصروه على بعض العبادات والحدود.. ولكنه ليس هذا فقط..
وليس الذي يدخل الجنة من أدى العبادات وأقام الحدود ثم هو ينطلق في الأرض مفسدًا لها، ظالمًا لأهلها، قاسيًا على من يعيشون فيها..
إن أهل الجنة هم الرحماء أصحاب القلوب الرقيقة والمشاعر المرهفة، أما أهل النار فهم الغلاظ الجفاة الذين تحجَّرت قلوبهم، واستكبرت نفوسهم فلم يرحموا خلق الله، ولم يرأفوا بحالهم..
إن البون بين الطائفتين شاسع، والمسافة هائلة، كما بين السماء والأرض، أو أبعد!!
إنه الفارق بين من فَهِم الإسلام ومن لم يفهمه!!
وصدق الله العظيم إذ يقول مخاطبًا نبيه الكريم : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
إن السبب الذي جمع الناس حول رسول الله ليس أبدًا قوة السلطان، ولا سطوة السلاح.. إنما الذي جمعهم حقيقةً -كما ذكر ربنا- هو رحمة الله التي ألانت قلب رسول الله فجاء على هذه الصورة الرحيمة متناهية الرحمة كما بيَّنا..
ولا أريد أن أترك هذا الفصل إلا مع كلمات رسول الله الرقيقة، وعاطفته الرحيمة..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا.. أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا.. فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ.. أَوْ إِنْسَانٌ.. أَوْ بَهِيمَةٌ.. إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ!"[16]
[1] البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ} (7115)، واللفظ له، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى (2751)، وابن ماجة (189)، وأحمد (9148)، وأبو يعلى (6422)، وفي رواية غلبت بدلاً من سبقت البخاري كتاب بدء الخلق (3022)، وابن حبان (6145).
[2] مسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى (2753)، وابن حبان (6146)، والطبراني في الكبير (6144).
[3] أبو جعفر محمد بن جرير، الطبري، صاحب التفسير الكبير والتاريخ الشهير، كان إمامًا في فنون كثيرة منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ وغير ذلك، ومن أشهر مؤلفاته تاريخ الملوك والرسل، توفي سنة310هـ. وفيات الأعيان4/191.
[4] الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 5/154.
[5] الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن 9/99.
[6] البخاري: كتاب التيمم (328)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (521)، وأحمد (14303)، والدارمي (1389)، وابن حبان (6398)، وابن أبي شيبة (31642)، والبيهقي في سننه الكبرى (958)، وأبو نعيم في حلية الأولياء 8/316.
[7] البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5667)، ومسلم: في الفضائل، باب رحمته بالصبيان والعيال (2319)، أبو داود (5218)، والترمذي (1911)، وأحمد (7121).
[8] رواه الترمذي (1924)، وأحمد (6494)، والحاكم (7274)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم (3522) في صحيح الجامع.