القتل الرحيم ومشكلات الخوف والألم
د. محمد جمال طحان
هل يمكن أن تكون طلقة الرحمة حلاًّ للأمراض المستعصية والشيخوخة؟
متى نفكّر بالموت بوصفه حلاًّ لما نعانيه؟ وهل يمكن أن يكون التخلّص من الحياة أمراً قابلاً للتنفيذ؟
وهل تسمح الأديان حتى بمجرد التفكير في الموت الرحيم ؟
هذه الأسئلة وغيرها كانت مدار محاضرة ألقاها الأستاذ إحسان الكيالي في جمعية العاديات، فكانت ورقة بحث مثيرة للجدل بين مؤيِّـد ومعارض.
وتكتسب هذه المحاضرة بعض أهميتها من مواكبتها لما يحدث في العالم بعد أن أصدرت هولندا (قانون الموت الرحيم) بعد إقراره من جميع المراجع الدستورية فغدا قانوناً يُعمل به اعتباراً من أول أيلول الماضي ( 2003 ) .
بعد جدل واستفتاءات ونقاش دام ثلاثين عاماً، صدر أول قانون في العالم يقونن وينظّم الموت الرحيم ويعدّه عملاً مشروعاً وفق حالات وشروط دقيقة حدّدها المشرّع. غير أن معارضي القانون اتهموا الحكومة الهولندية بأنها أصدرت هذا القانون لتخفّف من مصاريف المعالجة الطبيّة والأدوية للمواطنين.
جمع المحاضر الوثائق المتعلقة بالموضوع ودرس نص القانون الذي يتعلّق بهذه المادة من خلال معونة الأستاذ حسين المدرّس قنصل المملكة الهولندية بحلب، وعكف على اختيار الطريقة المثلى ليقدم محاضرة شاملة ومقتضبة تلمّ بالموضوع من جوانبه كافة.
في البداية قدّم الباحث تعريفاً للموت الرحيم بقوله: " هو استجابة الطبيب المعالج لرغبة مريضه، بإنهاء حياته نتيجة لمعاناة هذا المريض من آلام مبرّحة لايمكن تحمّلها، والميؤوس من شفائها نهائياً وقطعياً " ثم تساءل: هل يُعتبر هذا العمل جريمة قتل يعاقَب عليها الطبيب، أم يُعدّ عملاً إنسانياً مشروعاً ؟
الموت الرحيم من وجهة النظر الدينية
إذا كان القتل بدافع الرحمة يعني إنهاء حياة إنسان أو مساعدته على الانتحار فإن الأديان كلّها تحرّم ذلك تحريماً مطلقاً وتعتبره جريمة قتل، لأن الله هو الوحيد الذي يحيي ويميت. فالديانتان - اليهودية والمسيحية - كما قال الباحث - تحرّمان القتل بحسب الوصية الخامسة من الوصايا العشر " لاتقتل " والكنيسة ترفض الإجهاض والموت الرحيم بحسب ماجاء في ردّ المطران يوحنا جنبرت في معرض ردّه على سؤال المحاضر عن مشروعية الموت الرحيم. أما عن رأي الإسلام بهذه المسألة فقد أورد المحاضر كثيراً من الآيات القرآنية التي تدلّ على أن الموت هو من حق الله وحده واهب الحياة. وقد حرص الإسلام على حياة الإنسان ولم يجعل النفس ملكاً حتى للإنسان ذاته، وإنما هي ملك لله استودعه الله إياها، فلا يجوز له الانتحار، كما لايجوز له التفريط فيها بواسطة الغير ولو كان طبيباً يهدف إلى إراحة المريض من آلامه.
ثم أورد المحاضر جملة من الأسباب التي يتمسك بها أخصام نظرية الموت الرحيم، منها أن هناك مئات الحالات من المرضى الميؤوس من شفائهم قد مـنَّ الله عليهم بالشفاء وعاشوا عشرات السنين بعد أن كانوا يُحتضرون، وأن العلم يأتي كل يوم بجديد، ومن الممكن للمريض الذي لاعلاج له اليوم أن يشفى غداً، وأن مهمة الطبيب حماية حياة المريض ومتابعة علاجه بكل الوسائل الممكنة، وفقاً لِقَسَم (أبقراط) الطبي.
وبالرغم من ذلك كله، يتحوّل المحاضر من حديثه عن الموت الرحيم إلى الحديث عن الموت الأكلينيكي ليعرض وجهة نظر مختلفة من خلال رأي مختلف لأحد شيوخ الأزهر، فيورد قولاً ورد في كتاب (بيان للناس) للشيخ جاد الحق علي جاد الحق يقول فيه: (( أما بالنسبة للموت الأكلينيكي فإنه يمنع تعذيب المريض المحتضر باستعمال أية أدوات أو أدوية متى يتبين للطبيب أن هذا كله لاجدوى منه، وعلى هذا فلا إثم إذا أوقفت الأجهزة التي تساعد على التنفس وعلى النبض متى تبيّن للمختص القائم بالعلاج أن حالة المحتضر ذاهبة به إلى الموت)). ولقد استند شيخ الأزهر السابق جاد الحق في ذلك إلى مقررات مجمع الفقه الإسلامي الثالث التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في عمّان بالأردن عام 1987 حول أجهزة الإنعاش والموت الأكلينيكي. وهذا ما أقرّه أيضاً مؤتمر جنيف الدولي المنعقد عام /1979/ إذ عرّف المؤتمر الموت بتوقّف جذع المخ عن العمل بغضّ النظر عن نبض القلب بالأجهزة الصناعية. ورفع تلك الأجهزة الصناعية عن المريض هو ماسمّاه المحاضر بالموت الرحيم السلبي ومال إلى جوازه من غير تصريح علني واضح.
الموت الرحيم من الناحية القانونية
أما عن الموت الرحيم من الناحية القانونية فقد أكّد المحاضر أن جميع القوانين والتشريعات في أكثر بلدان العالم لاتقرّ بـه لأي سبب من الأسباب، وتوجب العقاب على من يقوم به. وقانون العقوبات السوري صنّف هذه الأعمال في باب القتل القصد، ويعاقب مرتكبه بالأشغال الشاقة من خمس عشرة إلى عشرين سنة. ثم عاد المحاضر فبيّن أن المادة /538/ من قانون العقوبات هي التي تنطبق تماماً على حالة الموت الرحيم، فهي تنص على مايلي: (( يعاقب بالاعتقال عشر سنوات على الأكثر من قتل إنساناً قصداً بعامل الإشفاق بناءً على إلحاحه بالطلب)). وتبقى إذن صفة جرم القتل الذي يعاقب عليه القانون مهما يكن نوعه.
وهنا عاد المحاضر وبيّن ميله إلى مشروعية الموت الأكلينيكي قائلاً: (( يجب المطالبة بتعديل قانون العقوبات … والأخذ بنظرية الموت الأكلينيكي على الأقل … وإن إقدام الطبيب بهذه الحالة على نزع جميع الآلات والأدوات وإيقاف الأدوية عن المريض يُعتبر عملاً مشروعاً وهذا ماعبرنا عنه بالموت الرحيم السلبي)).
الموت الرحيم من الناحيتين: الاجتماعية والإنسانية
رأى المحاضر الأستاذ إحسان كيالي أن الموت الرحيم يمارَس بشكل خفي في كثير من المجتمعات بالرغم من حظـره دينياً وقانونياً، والذين يقومون به يبررون فعلهم بدوافع إنسانية محضة لتخليص المريض من وضع ميؤوس من شفائه. وعلى سبيل المثال فلقد اعترف أحد الأطباء الفرنسيين بأنه مارس الموت الرحيم على العديد من مرضاه، كما أن ممرضاً أمريكياً أطلق على نفسه اسم ملاك الموت حيث كان ينهي حيوات بعض المرضى الميؤوس من شفائهم، حتى أنه - في إحدى المرات - خنق مريضاً ظل يتنفس بعد أن نزع عنه جهاز التنفس الاصطناعي.
وهناك عدة دول تبحث الآن إمكانية الاقتداء بهولندا مثل استراليا ونيوزيلنده وفرنسا وسواها لإصدار قانون مماثل للموت الرحيم.
وبعد عدة تساؤلات، أورد المحاضر مثلاً عامياً وطلب إلى المحاضرين التفكّر في مغزاه،، فكثيراً مانقول عن المريض: (( الله يخفّف عليه))؟!..
ثم بيّن المحاضر تفاصيل القانون الهولندي وموادّه الأساسية التي تحدّد الحالات الممكنة للموت الرحيم، وتبيّن واجبات الطبيب المعالج وشروط قيامه بعملية (( القتل الرحيم)) ؟!..
حوار " الموت الرحيم "
بعد انتهاء المحاضرة ثار كثير من المحاضرين ضد الفكرة بينما أيّدها آخرون. وكان من بين الذين تحدّثوا :
د. إحسان شيط : من يقرر ضرورة الرحمة .. وكيف؟
قال د. شيط إن الموت الرحيم ليس من مهام الطبيب، ولا يوجد لدينا أي معلومات كيف نعطي فيها الموت للمرضى.
الطبيب يعطي الدواء ويخفف الألم مهما كان سببه، ومهما كانت شدته، ولا يُسمح للمريض أن يتعذب، فيوجد في ترسانة الطبيب أدوية عديدة جداً لتقتل الألم.
أما قتل المريض فهذا أمر آخر تماماً.
ورأى أن مصدر فكرة الموت الرحيم مأخوذة من الطب البيطري (فالحيوانات التي لاتُنتج تُقتل).
ومأخوذة من معاقل النازية والعنصرية الذين كانوا يقتلون أعداءهم السياسيين ويصفّونهم جسدياً، والمعارضة السياسية كانت تلقى هذا الموت الرحيم أو غير الرحيم.
والآن أصبح قانوناً في هولندا وهذه مشكلة كبيرة: من سيقرر ضرورة الموت الرحيم؟ … الإنسان - المريض هو صاحب العلاقة.
هذا المريض هل هو دائماً متمتع بملكاته العقلية .
قد تأتي مريضة مصابة باكتئاب متكرر وتطلب أن ينهي الطبيب حياتها فهل هذا جائز؟
لذلك المشكلة مهمة جداً. أما اللف على القوانين الأخلاقية والدينية، وهذا ممكن، فهو شيء آخر.
اللـه حرّم القتل إلا بالحق.
وقد يستطيع أن يشرّع الإنسان أن هذا الحق هو تخفيف الألم. مثل معاقبة المجرمين ومثل الجهاد في سبيل الله أو الموت في سبيل الوطن، كلها طرق للموت… يمكن أن تلاقي لها غطاءاً دينياً، أما نحن كبشر … وأنا كطبيب، لايمكن أن أتصور نفسي أعطي الموت لأي إنسان. ولا أعرف دواءً ينهي حياة المريض.
د. عبدالمجيد رضوي : القتل الرحيم .. مرفوض
اتفق الفلاسفة المؤمنون أن الحياة هي هبة من الله ولا يجوز أن يأخذها إلاّ الله.
القضية هنا أن بعض المرضى يعتمدون المنطق الآتي، يقولون: إنني إذا بقيت فإنني سأكون عبئاً.
في بعض الدول وُضع قانون يمكن أن يوصي من خلاله الإنسان بأن تُمنع عنه الأجهزة الطبيّـة إذا كانت حياته ستبقى تعتمد عليها دائماً. لكن ليس من حقه ألاّ يُعطى أدوية لتخفيف الألم، ولا يحق له طلب إنهاء حياته.
وفكرة القتل الرحيم غير أخلاقية وغير جائزة.
القانون خطوة جريئة
وقال أحد الحاضرين : هناك وقائع فرضت نفسها حتى ظهر هذا القانون في هولندا.
وفي أمريكا هناك نوادٍ للمنتحرين وتعرف بها الدولة.
الهولنديون قرروا وقائع. سنّـوا قانوناً يعيشه الناس الآن، في ظل الانفجار السكاني الحالي.
بعض الدول ليس لديها إمكانية لرعاية المريض فترة طويلة، فلو مات المريض سريرياً وبقي حياً لسنوات عديدة، هل هناك إمكانيات لرعايته كل تلك المدة؟ القانون الهولندي خطوة جريئة استجابت لواقع موجود.
الشرائع حرّمت القتل بكل أشكاله، وهذه بدع غربية ينبغي علينا ألاّ نناقشها.
والإنسان الذي يتعذب عليه أن يصبر حتى يموت.
د. عمر الدقاق : نعم .. للموت الرحيم
أؤيد الموت الرحيم رغم أن معظم الآراء الظاهرية ضده.
الشرائع والأنظمة في خطوطها العامة من حقها أن تمنع ذلك، ولكن هناك حالات خاصة وتطورات لابد أن ننظر فيها فللضرورة أحكام.
وإذا كان القتل الرحيم مشروطاً بشروط دقيقة ومحصّناً بالحذر ومرفق بآراء لجان طبية فهو ممكن في حالات خاصة ولمصلحة الإنسان.
علينا أن نستخدم العقل ونستفيد من تطورات العلم في هذا المجال، والقانون الهولندي متطور إلى أبعد مدى وهو جريء ولا تجرؤ على مثله الدول الأخرى، وكثير من الأطباء لايتحلّون بالشجاعة الكافية لمساعدة مرضاهم.
محمد قجـة: تتغير الأحكام بتغير الأزمان
الموضوع ليس فقط طب وقانون، فيما أرى له جوانب كثيرة، فالآن البشرية يزداد فيها متوسط الأعمار ويكثر الشيوخ في مجتمعات قد تكون فقيرة، وهذا يفرز إشكالات كثيرة، وخلال هذا القرن ومع ثورة الجينات المعروفة قد يكون لدينا خارطة أعمار جديدة للبشر ولهذا لايمكن أن تكون المجتمعات متساوية في تناول الموضوع، بل لكل مجتمع ظروفه.
ومنذ أكثر من ألف سنة قال الإمام أبو حنيفة (( تتغير الأحكام بتغير الأزمان))، بمعنى أن لكل حاجة وقتها.
وفي هذا الوقت لاأدعو إلى قول نعم أو لا. وإنما أقول إن للموضوع جوانبه المتشعبة والكثيرة، وإذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية أخرى نجد أن البشرية أو الرأي العام العالمي لم يعر أي اهتمام قضية موت مليون إنسان في راوندا الفقيرة السوداء كما يعير لموضوع كهذا.
فالمسألة نسبية وتختلف من فترة إلى فترة ومن مجتمع إلى مجتمع.
لكن نبقى دائماً حريصين على سماع مثل هذه الإشكالات التي يثيرها الأستاذ إحسان الكيالي.