وكذلك البحر ينشف ( قصة قصيرة )
النهى بين شاطئيك غريقُ
والهوى حالمٌ فيكِ مايفيقُ
( حمزة شحاتة )
" كم من فراشة علَقتها على خاصرتك في كل ليلة أحرثها بالقبل لسيتيقظ الزهر وينمو الأخضر الذي يزرعني عليك كوشم أبدي ووسم يفضحك بي , حين تسيرين بخاصرة مشقوفة , تسيلين بي أحمر قانٍ , لأكتشف معك بأني كنت أكلك لا أقبلك , أتغذى عليك ولا أشبع , ومازادني الأكل منكِ إلا نحولا وإصفرار يا شبحي الأخضر ..! "
أسأل إبراهيم ما سر تولعه بالأقلام الناشفة و لماذا لا يستخدم الأقلام السائلة فتأتي إجابته بكل هزله المعتاد ” أنا واحد ناشف يا صاحبي وأحب أن أتعامل مع كل الأشياء الناشفة مثلي ” , لا أعرف هل يحق لي أن أضحك الآن وأنا أكتب رسالتي لكِ بقلم إبراهيم الناشف , ولا أعرف لماذا اليوم بالذات تذكرت صوت إبراهيم وحرصت على أن أبحث عن قلمه الناشف الذي أهداه لي يوم تخرجنا , لماذا كركبت أغراضي كاملة لأصل إلى قلم بريال , الريال الذي رفعه إبراهيم بعد خروجنا من مكان الحفل نحمل شهادات ملفوفة بشريطة أنيقة تغلقها للأبد , حين سألته ” وين هديتي ” , عندها أخرج الريال ولوح به :
” مافي غيره ريال ناشف يا دكش ” .. وضل ملوحا به إلى أن وصلنا إلى الحارة ومرّ بنا عم مجمّل بعربته التي يجمع عليها أشياء زهيدة تجد لها سوق رائجة بين البسطاء من مساويك وأعواد تخليل وعلب مناديل وأقلام وبعض الروائح الرخيصة التي لا يهتم من يشتريها بجمال رائحتها بقدر مايهتم بأنه يشتري رائحة , أي رائحة تطمس رائحة عرقه , , مروره وقتها استوقف يد إبراهيم الملوحة بالريال ليستبدله بقلم ناشف يعطيني إياه بعدما أعطى الريال لعم مجمّل ..
لماذا الآن أحتاج لقلم إبراهيم الناشف لأكتب لكِ رسالة أحشرها في قنينة وألقيها في البحر ,هل أريد أن أخبرك عن سبع سنين ناشفة لم أستطع فيها جمع مهرك الوهم , عن سبع سنين عجاف من الجري خلف وظيفة أتخيلها تأتي ومقاس فخامة عائلتك , عن سبع سنين عجاف من التقشف والجمع , حتى الماء .. ألم أخبرك , حتى الماء كنت أشعر بخسارة أن أشتريه , بقيت أشرب من حنفية الغرفة التعيسة في هذه المدينة الفارهة , الحنفية التي لا أحد يعرف من أين تنبع , كل ماحولنا في هذه الحارة ناشف ولامنبع هنا غير حفرة الصرف الصحي التي أتخطاها كل يوم بالقفز من عليها وأنا أشعربأني أتضخم برائحتها حد أن أتخيلني بحيرة صرف صحي بعد كل شربة ماء ..!
حتى الماء الذي يشابه الماء لديكم لا أشربه من أجلك , أخبرها أيها البحر , أخبرها أيها الماء , احملني ناشفا إليها , احذف بي عند نوافير منزلها وأسوار عرشها رغيفا ناشفاً كتميس أتعشاه وأفطر به وأنا أقنعني بأني يوم ما سأتغذى معكِ على الورد , مات الورد يا شبحي الأخضر في نظري منذ رأيتك تجلسين في فناء منزلكم بارونة تقف الأرض كلها على إيقاع خطوها , هل سمعتِ يا شبحي الأخضر عن أحمق يحبك ولا تعرفين اسمه , عن أحمق يمتلكك كل ليلة , عن عاشق يسرب لكِ كل شهر رسالة عشق محشورة في قنينة يلقيها في البحر , عن ناشف يقلد العشاق النبلاء حين يكتبون الشعر ويسربونه إلى حوريات البحر التي لم يروها يوما فقط ليخبروها نحن نعشق ” الغياب ”
يا غياب منذ تسلقت متطوعا لأصلح طبق رجل غريب استنجد بي ليعلقني على رأس بيته حتى أضبط له إرسال الستالايت , فقدت تراسلات الحضور منذ وقعت عيني عليك أيها الغياب جالسا في ذلك الفناء , لم تكوني امرأة فقط , لا يمكن لامرأة أن تفعل كل ذلك بي , كنتِ قبائل نساء مجتمعة شهقة الحب الأول متكومة على مقعد واحد بجوار أصيص زهر تحتسين من كوب تخيلتني أغرق فيه لدرجة أني لم أنتبه لقدمي التي كادت تزل بي من على سطح الرجل وكدت أن أسقط لولا تداركني هو وشدني إليه , وعلمت بعد نزولي من على سطحه بأني سقطت في غرام فتاة سرقتني بالنظر , أتحسس جدران سورها,ألتصق بأرصفة مرورها أشتري لها من كل محل , أرسمها على كل شاشة وعلى كل غلاف وألحفها كل ليلة , ولاأعرف عنها أكثر من اسمها الرنان الذي عرفني به الرجل صاحب الستالايت , اسمك واسم آخر بعدك مخيف يخبر بأن أسوار بيتكم أكبر من أن يقفز من عليها قصير ” اليد ” مثلي , كل ما تستطيع فعله هذه اليد القصيرة أن تتحسس شبحك الأخضر وأن تشتري لكِ وترسمك على وجوه النساء وتلحفك آخر الليل و تكتب , تكتب وتغرق البحر بكِ يا غياب , لا أعرف كم قنينة أسكنتها البحر منذ سبع سنوات , ولا أعرف لماذا الآن أوقن بأنها القنينة الأخيرة والتي أحتاج إلى تويثقها بقلم إبراهيم الناشف الذي مات هذا الشهر لأنه لم يكن يملك ثمن كلية جديدة بعدما جفت كليتاه , تعبت منكِ ياشبحي الأخضر وتعب مني البحر .
ألقى مروان القنينة في البحر , ونهض ينفض ثوبه ويرفع شماغه على كتفه , ليفاجأ بشخص يرتدي بدلة رسمية وحوله مجموعة من الأشخاص يرتدون نفس الزي :
ــ مالذي تفعله ..؟!
ارتعد مروان فزعاً :
ــ لم أفعل شيء
ــ أنت تلوث البحر مالذي ألقيته في البحر الآن ..!
استدار مروان إلى الوراء ثم قال مستنكرا :
ــ لا شيء
ــ لقد رأيناك , لا داعي للإنكار , أنت تفسد البيئة وتلوث البحر وتتسبب في كثير من الخسائر للدولة بتصرفك الغير مسئول أيها الجاهل ..!
ــ من أنتم ..؟!
ــ نحن نقوم بجولة شهرية لتطهير البحر والتوعية بضرورة نظافته وإحسان التعامل معه ونحن ننطلق من مؤسسة خاصة لحماية البيئة .
يخرج من جيبه بطاقه يحشرها في يد مروان وهو يربت على كتفه بصيغة تحذير :
ــ لا تفعل ذلك مرة أخرى .
ويمضي .
يخرج مروان لسانه في حركة استهتارية وهو ينظر الى قفا الرجل ومجموعته المغادرة , ولكن مايلبث أن يفتح فمه صارخا بلا صوت , متيبساً وعيناه تكاد تقفز للخارج عندما يقرأ على البطاقة اسم المؤسسة متبوعا باسم صاحبتها الثرية القائمة عليها .
أرهقتني إلى أبعد حدّ
.
.