يشيع التعاطف بين رفيقات العرجلة، إذ يعتمد بعضها على بعض في حماية صغارها، في حين تمثل الذكور واحدا من أخطر مصادر التهديد. فما إن يستولي أحد تجمعاتها على عرجلة جديدة من الإناث حتى تعمد الذكور الوافدة - في لهفتها على إنتاج ذرية من أصلابها - إلى قتل جميع صغار أشبال العرجلة وطرد كبارها خارجها.
وعلى الرغم من أن إناث الأسود تتبادل بالفعل إرضاع ذراريها، تحاول كل أنثى أن يكون لبنها لأشبالها هي أولا وأن تصد محاولات الاقتراب التي يقوم بها الجوعى من أشبال غيرها. ولكن هذه الإناث بحاجة أيضا إلى النوم، وعندما تأخذ الواحدة إغفاءة تمتد لساعات فإنها تتيح للأشبال فرصة مغرية عظيمة، فالشبل الذي يحاول الرضاعة من غير أمه ينتظر عادة حتى يغلبها النوم أو تبدو مشتتة الانتباه. ولذا يتحتم على كل أنثى أن توازن بين الجهد المطلوب بذله لصد محاولات الأشبال المتطفلة وبين ما تعانيه من إعياء يتطلب منها أن تنام.
إذًا صفة السخاء بين إناث الأسود هي - إلى حد بعيد - حالة لا مبالاة. فالأنثى التي لا تمتلك مما يُحرص عليه إلا أقل القليل، تنام كأفضل ما يكون، إما بسبب قلة ذريتها وإما العون الذي تقدمه قريباتها الأدنى. وقد وَجَدتْ إناثُ الضباع الرقطاء حلا لهذا التعارض، وذلك بالفصل بين مكان نومها ومكان إرضاع الصغار، فهي تحفظ صغارها في وِجار den آمن تتردد عليه فتراتٍ قصارًا لإطعام الصغار ثم تغادره وشيكا لتنام بسلام في مكان آخر. وبمراقبة إناث الضباع في أَوْجِرَتها وجدناها تتعرض لمحاولات الرضاعة التطفلية (من جِرَاء الأمهات الأخريات) بمثل ما تتعرض له إناث الأسود، ولكن إناث الضباع أكثر يقظة ووعيا، لذا كانت أقدر من إناث الأسود على منع تلك المحاولات.
استمرار الحياة في «سرنجيتي»
كما رأينا، تكون إناث الأسود أكثر ميلا للتجمع عندما يكون لها صغار بحاجة إلى الرعاية، وهنا يكون العرينُ المركزَ الاجتماعي لأفراد العرجلة. ومن وقت لآخر تقوم بعض الإناث عديمة الذرية بزيارة الرفيقات الوالدات، ولكنها لا تهتم عادة إلا بشؤونها الخاصة، فهي تتغذى جيدا وتتحاشى التورط في المشاركة في العلاقات المعقدة التي تتطلبها الحياة الاجتماعية في العرين، الذي يمثل قاعة الطعام ودار الحضانة معا. إن الأمهات لا تبني العرين لتحسين تغذية صغارها، فالأمهات في الجماعة قد يكون نصيبها من الطعام - وبالتالي نصيب صغارها - أقل من الأمهات الفرادى. وفي عالَم الأسود لا يوجد نظام جليسة الأطفال baby sitter لضمان الإمداد المستمر بالطعام في غياب الأم. إذًا فمن الواضح أن الأمهات تشترك في بناء العرين لحماية النفس والصغار وحسب.
تحتاج اللبؤة إلى مدة قد تبلغ العامين لتصل بأشبالها إلى مرحلة الاعتماد على النفس، فإن ماتت الأشبال قبل انقضاء هذه المدة، فإن الأم ستقبل المعاشرة في خلال أيام قلائل، ومن ثم تنقص فترة ما بين الولادتين قرابة العام. ومن المعروف أن ذكور الأسود نادرا ما تتودّد إلى صغارها، وإن كانت حماية هذه الصغار ثمرة لما تقوم به الآباء من جولات في أرجاء المنطقة. وإذا حدث وتعرضت جماعة من الذكور للطرد من حماها فإن الأسود التي تخلفها فيه ستتعجل التزاوج لتكوين نسل جديد. وهنا تكون الأشبال الباقية من الجماعة السابقة عقبة تعترض رغبة الذكور الوافدة في تحقيق أهدافها الملحة، وبالتالي تتحتم تنحية هذه الأشبال. ومن الملاحظ أن أكثر من رُبْع مجموع هذه الأشبال تتولى قتلَه الذكورُ المغيرة، بيد أن الأمهات ستكون في النهاية ضحايا هذا الصراع، فهي تستبسل في الدفاع عن صغارها ضد الذكور الدخيلة. ولكن الذكور تفوق الإناث ضخامة بنسبة تقدر بنحو %50، ولذا فإن هزيمة الإناث في هذا الصراع غير المتكافئ تكون مؤكدة لو دار فردا لفرد، بيد أن صلة الأخوة التي تربط الإناث في العرجلة الواحدة تكسبها فرصة لمواصلة القتال، وفي كثير من الحالات يحقق التآزر بين رفيقات العرين نجاحها في حماية ذراريها.
ليست الأسود الذكور هي المشكلة الوحيدة التي تواجه الإناث، فهي أيضا - كالذكور - تحافظ على حماها، ومن ثم تذود الإناث الغريبة عن مجالات الصيد وأمكنة الاختباء ومصادر الماء، حيث تكون الغلبة للعراجل الكبيرة على الصغيرة. وقد تهاجم بعض الإناث جاراتها وتقتلها. والمشاحنات بين الإناث تمتد أطول من التحديات بين الذكور، لأن الذكور تكرس نشاطها التناسلي غالبا في عدد قليل من السنين، في حين قد تمتد الحياة التناسلية للإناث إلى أحد عشر عاما، ولذا فالصراع على الحدود يكون بين عراجل الإناث أطول أمدا مما يحدث بين تحالفات الذكور، ومن ثم فهي تتبع إستراتيجية أكثر حذرا حيال الغرباء. وبناء على مشاهدات <K. مكوم> (حاليا بجامعة سَسِّكسْ) لا تتصدى الإناث لطرد مزاحماتها -عند سماع أصواتهن المسجلة- إلا إذا تفوقت عليها في العدد باثنتين على الأقل. وإناث الأسود يمكنها العَدّ وتفضّل ترك «هامش أمان»، فالفروق العددية هنا تشكِّل مسألة حياة أو موت، وأي عرجلة يقل عدد أفرادها عن ثلاثة مقدر عليها أن تحيا حياة عقيمة خاملة، متجنبة العراجل الأخرى، وعاجزة عن إنجاب أية أشبال.
إن عرجلة الأسود هي الملجأ الذي تستطيع فيه أفرادٌ ذات مصالح تناسلية مشتركة أن تتأهب فيه لمواجهة التحرك القادم للعدو - الذي هو أسود أخرى قد تكون ذكورا أو إناثا - وهي محصَّنة ضد الهزيمة. ولقد رأينا - على مر السنين - مئات من الذكور تجيء وتذهب، وتحالفاتٍ ينتهج كل منها المنهج نفسه من الغزو والقتل فالإنجاب، يتلوها الانحدار والسقوط الحتميان. وقد رأينا عشرات العراجل يحكم كل منها قطعة الأرض التي تخصه في متنزه سرنجيتي، ولكن في مقابل كل عرجلة جديدة تنجح في تأسيسها كانت تختفي عرجلة أخرى، ومن الحق أن نقرر أن الأسود قد تبدو عظيمة في غاياتها المشتركة، وهي تناضل جيرانها من أجل الاحتفاظ بالأرض، وصد أي زحف غير مرغوب فيه من قِبَل الذكور. وعلى أية حال فإن الأسد - ملك الضواري - يقدم لنا نموذجا حيا لبوتقة تطورية يشكَّل فيها مجتمع تعاوني.
المؤلفان
Craig Packer - Anne E. Pusey
أستاذان في قسم علوم البيئة والتطور والسلوك بجامعة مينيسوتا، وقد أجريا دراساتهما - موضوع هذا المقال - في معهد بحوث الحياة البرية في متنزه سرنجيتي بجامعتي شيكاگو وسَسِّكْس. أتم پاكو دراسة الدكتوراه عام 1977 بجامعة سَسِّكْس، وهي السنة نفسها التي تسلمت فيها پوزي -شريكته في البحث- الدكتوراه من جامعة ستانفورد.
مراجع للاستزادة
A MOLECULAR GENETIC ANALYSIS OF KINSHIP AND COOPERATION IN AFRICAN LIONS. C. Packer, D. A. Gilbert, A. E. Pusey and S. J. O'Brien in Nature, Vol. 351, No. 6327, pages 562-565; June 13, 1991.
INTO AFRICA. Craig Packer. University of Chicago Press, 1994.
NON-OFFSPRING NURSING IN SOCIAL CARNIVORES: MINIMIZING THE COSTS. A. E. Pusey and C. Packer in Behavioral Ecology; Vol. 5, No. 4, pages 362-374; Winter 1994.
COMPLEX COOPERATIVE STRATEGIES IN GROUP-TERRITORIAL AFRICAN LIONS. R. Heinsohn and C. Packer in Science, Vol. 269, No. 5228, pages 1260-1262; September 1, 1995.
Scientific American, May 1997
(1) العَرْجَلَة Pride: الجماعة من الأسُود ونحوها.
(2) يستخدم المؤلفان الجناس اللفظي الناقص بين اسم الأسد باللغة الإنكليزية (ليون) وبعض أسماء الغازات (أرگون، نيون..) للتنويه إلى صفة الخمول المشتركة بينهما.
(3) in estrus أَجْعَلَتْ واستَجْعَلَتْ اللبؤة بمعنى أَحَبَّتْ السِّفاد واشتهت الفحل.
منقوول للأمـانه
.