يسرى الفخرانى
ياصديقى.. إنها السعادة!
أنت يائس بائس مصدوم مهزوم، حزين مقهور، مكتئب أو أبعد من ذلك قليلا، ليس فى قلبك حلم، ليس فى يدك أمل، ليس فى رصيدك طاقة، ليس لقلقك نهاية، تشعر أن الأيام تتشابه وتتشابك وتتساقط، وكل نهار نسخة من نهار رمادى مر بك من قبل، تشعر بالمرارة أنك إنسان لا يعامل معاملة تليق بقدره، بقامته، بقدرته، تعمل مالاتحب، أو لا تحب أنك لاتعمل، فى آخر النهار أنت مسروق، ليس فى يدك إنجاز تفخر أنك صنعته، ليس فى سيرتك نجاح تنام وتحلم بسببه أحلاما سعيدة!
الوجوه لاتضحك فى وجهك، ومعها حق.. ولك حق، هم مهمومون.. وأنت مهموم، والمحصلة شوارع مزدحمة صفراء منهكة، لا يضحك فيها أحد، ولا يهون فيها أحد على أحد، وبيوت تغلق فى المساء على حزن، وعلى مشاعر متهدلة، وعلى عزلة، وعلى صمت، وعلى دموع، وعلى كل شىء إلا الأمل!
الحياة صعبة، وهى صعبة منذ خلقها الله، لكننا انفردنا وتطورنا فجعلناها أصعب، لكنها فعلا صعبة، ولست وحدك، أنت وأنا وهو وهى وهم، لا تتصور أن أحدا الآن ينام سعيدا كما يجب، سعيدا بصدق، سعيدا لأنه راض وأن الله يرضى عن حاله!
نحن نتقاسم الصعوبة بكل أشكالها وألوانها، ونتداولها كل يوم كما حصتنا فى رغيف الخبز، وكلما ازدادت صعوبة، ضاعفنا عذابنا بالوحدة والشكوى والرغبة فى البكاء، فنصبح، وتصبح، وأصبح أكثر إحساسا بأننا نعيش خارج الزمن.. لاداخله، على هامش المنطق والمتوقع والمنتظر ومايجب أن يكون!
اسأل من حولك: هل أنت سعيد؟ هل تشعر أنك تنتظر اليوم التالى بشغف وأمل؟
كلنا هذه الإجابة التى سوف تقول: لا .. لا بكل عمق وكل سخرية!
إذن، لا أنت وحدك الباكى الشاكى المخزول المختصر، ولا أنا.. ولا هو ولا كل واحد يحتمل ويحتمى فى فقره أو ثرائه، فى بساطته أو سلطته، فى ضعفه وفى قوته!
السعادة رغبة جماعية فى الحياة، شعور الأغلبية أن هناك اختراعا جميلا اسمه الأمل، اهتمام عموم الناس بانتظار يوم اسمه «غدا»!
لا أحد يمكنه أن يكون سعيدا منفردا، فالسعادة عزف جماعى طويل رائع منتظم، يصفق له الجميع فى نهاية السهرة، ليذهب الجميع فى نوم عميق بلا كوابيس!
لاتصدق السعداء.. إذا قالوا لك إنهم يصنعون أغنياتهم بأنفسهم، لاتصدق ابتساماتهم الباهتة الباردة التى لاطعم، ولا نفس، ولاحياة فيها، لاتصدق أننى يمكن أن أكون أسعد الناس، وهناك من حولى أتعس الناس!
لذلك حين نطالب بحقنا فى السعادة، فنحن فى الحقيقة نطالب بحق الجميع فيها، أنت سعيد.. سوف أكون سعيدا مثلك وأكثر، ومخطئ، مخطئ جدا من يلتهم كل أطباق السعادة وحده، ولايترك لأحد حبة سعادة.
نحن نعيش كارثة جماعية لا أحد يريد الاعتراف بها، ويجب الاعتراف بها، كارثة السعادة الغائبة، أو السعادة المسروقة، أو السعادة المفقودة، فى كل التعبيرات التى يمكن أن أكتبها هى سعادة لا يلمسها أحد، لا يعرفها أحد، نسمع عنها دون أن نراها، وننتظرها دون أن تكون هناك طريقة واضحة للوصول إليها أو الحصول عليها!
السعادة يجب أن تتحقق لأنها حق إنسانى مثل الحرية، ويجب أن نوفر لها المناخ لتبدأ فى الحضور، حتى نعيد أشياءنا المفقودة، حين تأتى سوف نسترد حياتنا الضائعة، وحين نسترد الضائع، سوف نصنع نوعا أفضل من السعادة، سعادة مفرطة تجعلنا نقبل على الحياة لا نهرب منها، نقاتل من أجلها، لا نموت فيها!
الآن جاء دور السؤال التالى: كم حياة يمكن أن تعيشها؟
الإجابة ببساطة : وهل هناك إلا حياة واحدة!
نعم، الإجابة صحيحة، الحياة واحدة، حياتك واحدة، مرة وتعدى، إنها تمر ولاتعود، تمضى.. فليس أمامك يوما إلا أن تبكى عليها فقد ضاعت، وأن تندم لأنها مضت هكذا تعيسة، وتحاول أن تتذكر كم مرة كنت سعيدا، فلا تذكر من قلة الفرص التى ألهمتك السعادة!
هل يمكن أن تكون سعيدا منك لنفسك!
طبعا صعب ومستحيل وغير ممكن، ولا هو عقل، إنما منتهى الجنون، لكن منتهى منتهى الجنون أن تعيش وتموت.. بليدا حزينا مجبرا على نوع واحد من الحياة، ليس فيه سعادة حقيقية ترفعك إلى السماء، قرص شمس أو طائرا ملونا أو سحابة ممطرة!
من الظلم، أن تعبر عليك حياتك دون أن تعبر أنت عليها.
أعرف أن لديك الآن، عند هذا السطر ربما رغبة فى بكاء أو حسرة أو غيرة أو لوعة أو لامبالاة أو سؤال عن الحل.. أريحك: لا حل!
لاتنتظر حلولا تهبط عليك هذا الصباح.. ولا تؤجل أمنياتك بالسعادة إلى أى مساء، السعادة كالحب، كالنجاح.. تذهب لها ولاتذهب لك، تبحث عنها ولا تبحث عنك.
فإذا كانت السعادة كائنا مفقودا الآن فى ظروف غامضة، وليس هناك موعد لحضورها أو احتمالات لعودتها.. فليس أمامك إلا حل فردى يبدو مثاليا، لكنه قد يرضى ضميرك إذا يوما سألك أو سألته فى لماذا أهدرت عمرك تعيسا؟
حاول أن تعيد الأشياء الصغيرة التى كانت تسعدك وفقدتها يأسا، حاول أن تتمسك بما تبقى فى يدك من تفاصيل صغيرة، تجد أنها تمنحك وقتا ولو قليلا من السعادة الحقيقية وليست الوهمية.
لا أطلب منك أن تتصنع السعادة، أطلب منك أن تبحث عن مخبئها السرى الصغير وتفتحه فى أمل، كما أطلب منك، وهذا طلب متحضر وراق ودينى يرضى الله عنه، أن تحاول بكل جهدك أن تجعل من حولك وأقرب الناس لك سعداء، حتى لو لم تكن بكل قواك السعيدة، سعادة الآخريين فى حد ذاتها غاية.. وهى أيضا الوسيلة الوحيدة المضمونة التى يمكن أن تهديك سعادة!
فإذا وجدت أحدا سعيدا لاتحسده، لاتفكر فى طريقة تسرق منه هذه السعادة أو تبطلها، ادعو الله أن يجعله أكثر سعادة، وأن يجعل الآخرين سعداء، يوما.. سوف تصادفك السعادة وأنت تبحث عنها، سوف تجدها فى ابتسامة طفل يلهو، أو أم تخاف، أو أب يكافح، سوف تجدها فى نفسك مختبئة فى خوف من الناس أن تقتلها أو تحسدها أو تطردها.
كلنا تعساء حين اعتبرنا السعادة رفاهية لا تليق بالكفاح والتحدى والانتظار والجوع والفقر والخوف من الأيام القادمة.
كلنا تعساء مرضى حين جعلنا السعادة جريمة تستحق اعتقال أصحابها فى مستشفى الأمراض العقلية.
كلنا تعساء مرضى مهزومون، حين جعلنا السعادة فعلا سريا نمارسه بعيدا عن عيون الناس، خوفا من العين التى فلقت الحجر، وجعلناها رسما كاريكاتيريا، ونكتة ودواء به سم قاتل!
ابحث عن السعادة كما يجب أن يكون الجهد المبذول للعثور على كنز يغير حياتك.
حبها وخف عليها وارفعها من الأرض إلى السماء، ومن اللامبالاة إلى البحث عن حقك فى الحياة.
أنت شىء كبير فلاتجعل أحدا ولاتجعل زمنا ولاتجعل وجعا ولاتجعل يأسا ولاتجعل فسادا يهدر عليك عمرك، أو يحرمك من حياتك التى هى مرة واحدة وتمضى!
هذا ديسمبر ينتصف، وعام يوشك على الرحيل، وعام يأتى كفارس على حصان أبيض، يبشرك بالنصر، ويهديك باقات الورود، راجع نفسك من فضلك ياصديقى.. فأنت تستحق أكثر مما أنت فيه، وأروع مما حصلت عليه، وأهم مما وصلت له.
هذا عام يبدأ كصفحة بيضاء فى رواية لم تكتب بعد.. وأنت تستطيع أن تكتبها على أروع مايكون.
كل واحد فينا هو مؤلف عظيم لقصة كبيرة.. إما أن يكتبها وإما أن يمزقها، إما أن يجعلها ملحمة، وإما أن يجعلها هزيمة مروعة دائمة.
ياصديقى.
أنت شمعة.. فاشعلها تضىء لك ولنا ولمن حولك الطريق.
وكل عام ينتهى وأنت قادر على أن تجعل الذى يليه أفضل الأعوام.. بسعادة!