وطن الشيطان
اندفعت عيني تقلب القاعة كما اعتادت مع كل جلسة ، وجوه متجهمة وأخرى عابسة وأخرى باكية , حديث غير منتظم ، محامون ،نيابة ،.مقاعد لقضاة لم يحضروا بعد.. آية قرانيه مكتوبة بخط بارز علي الجدار
(( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) يتوسطها رمز الميزان
عدتُ ببصري إلى الوجوه فعانقت ُصورة لكم افتقدتها ، إنه يوسف
نظرت فإذا بعينيه قد مُلئت بالدموع فأطلتُ النظر إليه مبتسماً لعلّ في ابتسامتي رسالة كاذبة تخبره أنني بخير حال ولكنني وجدت نظرتي تضعف من قواه وقواي فحولت رأسي بعيدا وأغمضت عيني ثم استسلمت لدمعة حارقة وخيط ذكريات أخذني أبعد من مكاني
******
- أنا نفسي أعرف إيه لازمة المصحف في العربية طالما لا بتقرا فيه ولا بتصلي
- ياد أنا لو قريت فيه أو صليت مش هصاحبك
- ليه ... علشان انا مسيحي يعني
- لا يا عبيط – علشان انت فاسد وانا افسد منك
عملة واحدة كنّا أنا ويوسف وجهيها ، ملامحنا تكاد تقترب فتجعل منا أخوين، فقط كان هناك صليب صغير على معصمه الأيسر وهذا أيضاً لم أشعر بوجوده كما لم يشعر هو بأهمية المصحف في حياتي ، جيران في المسكن ، يجمعنا مقعد واحد طوال أعوام الدراسة ، ومنذ أن توفي والده فضّل يوسف تسليم إدارة الشركة لوالدي،تلك التي كانا والدانا يقتسمان إدارتها
عندما فشلنا في الحصول على الشهادة الجامعية ،طارت بنا أقدامنا إلى حلمنا المشترك ( أمريكا ) جاعلين من الدراسة حجة لنا.
- أنا صرفت شيك المعونة النهاردة
- والله المسيحين في البلد دي واكلينها والعة
- متجرب يا بني تكون مسيحي
- طب والإسلام..؟؟
- قال يعني انا مسيحي وأنت مسلم
- علي رأيك – أهي ديانة في البطاقة مش أكتر
لهشاشة الهدف في دواخلنا فشلنا أيضا في إتمام الدراسة داخل أمريكا، فأخبرت والدي أننا سنترك الدراسة ولكننا لن نعود إلى مصر، فنحن نفضّل الحياة في أمريكا ،وتقبل أبي الأمر بلا مبالاة لم تدهشني .
وفي حين لم يأبه أبي في أن نعود أو لا نعود، لم نهتم نحن سوى بصرف الشيك الذي يصلنا منه كل ثلاثة أشهر.
ومضت بنا الأيام نشكلها كما يحلو لنا دون رقيب أو حسيب، و لضعف نفوسنا شكلناها كأسوأ ما يكون، فجعلنا أجساد النساء دربينا، وجعلنا النبيذ والسهرات الحمراء شغلنا الشاغل، كلما جاءت الشمس ضمَّنا فراش النوم وكلما جنََّ الليل أصبحناعلى موعد مع البارات والملاهي
ووسط هذا المجون كانت تأتيني بعض ليال أشعر فيها بالكآبة والحاجة إلى البكاء ولكنني لم أعرف حينها لماذا أريد البكاء ولمن ستكون دموعي إذا طاوعتها النزف .
****************
- أنا مخنوق قوي النهاردة
- هسهرك سهرة تنسيك خنقتك ...لأ وتنسيك اسمك كمان
- ايدي علي كتفك
انطلقت السيارة إلى حيث لا أعلم ولا أدري ثم توقفت في منطقة شبه صحراوية ظننت حينها أن ليلتنا ستكون ليلة هادئة فوق سفح أحد الجبال فرسمتُ علامة امتعاض نـَهَرها يوسف بملامح وجهه ثم أكمل سيره لأتبعه، وما أن أسدل الجبل علينا ستره وضمَّنا في جوفه، وجدتُ ما كنت أنشده في سهراتي
نساء عاريات، رجال أيضاً عراة،موسيقى تنبعث من قلب الصخر تضفي عليها الإضاءة الملونة والرمال سحرا عجيبا
فجأة توقفت عيني أمام صليب مقلوب ونجمة أعرف أنها شعاراً لعبادة الشيطان
- دول عبدة شيطان يا يوسف
- ومين قال اننا مبنعبدوش
- انا همشي من هنا
- يابني دول مجموعة من السكارى – وطقوسهم عجيبة ،عايز تشارك أهلا وسهلا – عايز تروح العربية برة
أنهى كلماته بعدها تركني ليبدأ الرقص وسط الجموع , لم يلتفت لي فهو على يقين أنني لن أرحل، فأنا أكثر منه رغبة في البقاء وما كانت كلماتي إلا ردة فعل واهية للمفاجأة ليس أكثر .
بدأت الموسيقى تزداد صخبا وبدأت الحركات الماجنة تزداد عنفا ,,هنا اندفعت لتلبية نداء الشيطان والرقص مع نساء لا أعرفهن ولا يهم أن أعرفهن، المهم أنني أشاهدهن وأتلمس أجسادهن بيدي ,, هدأت الموسيقى للحظات فتنبهت لصوت صراخي وصراخ الجميع فبدا لي وكأننا وسط نيران عطش الجسد ، نرتوي بالموسيقى والخمر والجنس ولا نشبع .
تتابعت الطقوس فاعتلت امرأة عارية بالغة الجمال منصة حجر يصحبها رجل مميز بأوشام غريبة ثم بدأ الرجل في رسم الصليب المقلوب بالسكين على جسدها
ورغم شعوري بالثمل، ارتعشتُ مما أرى ولكن إيماءاتها برأسها وتعبيرها الحركي عن نشوتها ولذتها بما يحدث جعلني أشتهي أن أتذوق دمائها وأتمنى أن أكن أنا من يمزّق جسدها ، وما أن انتهي الرجل من رسم الصليب المقلوب توقفت الموسيقى ليناوله أحد الأشخاص كلباً أسود فرفعه بيمناه بينما لم تزل السكين في يسراه، التفت للجموع من الجهتين ثم أحنى رأسه ليقبل قلادة النجمة ثم علي حين غرة نحر الكلب لتطير رأس الكلب في اتجاه مغاير ليأتي صوت الأزيز والدماء من رقبة الكلب اندفع الجميع نحو دماء الكلب يلطخ بها جسده ويتذوقها ووجدتني دون شعور أتسابق في النيل بشرف عبودية الشيطان وتلطيخ جسدي بالدماء .
ومضت الليلة وقد تذوقت فيها طعم الرقص والموسيقى والنساء ودم كلب جميعهم داخل كأس واحد .
بعدها بأيام اشتقت لتكرار التجربة رغم عزمي الواهن على عدم تكرارها , بعدها استسلمت نهائيا لرغبتي ولم تعد تمر ليلة إلا تواجدت حيث عبادة الشيطان وإذا تقاعس يوسف عن الذهاب دفعته أنا حتى يستجيب, ولم يكن ذهابي من أجل النساء أو الخمر بل كان امتزاج النساء والخمر والموسيقى والطقوس التي نمارسها يمثل عندي معادلة صعب تجزأتها .
غرقنا سويا في بحر عبادة الشطان وزال وجه الاختلاف الوحيد بيني وبين يوسف، إذ جمعنا الشيطان كإله واحد إلى أن جاءنا خبر وفاة والدي فاضطررنا للعودة حيث الشركة ،على اتفاق بسرعة العودة بعد إتمام عملية بيع الشركة التي أصبحت الآن ملكا لنا .
وفي مصر فوجئنا بطول إجراءات عملية البيع فعقدنا العزم على المكوث والبحث عن جماعتنا داخل مصر
ولم يطل البحث فقد وجدنا هنا ما ظننا أننا تركناه هناك – نفس الطقوس – نفس الموسيقى – نفس العري – نفس الرب .. فقط تغيرت الوجوه
وتمر الأيام متشابهة إلى أن جاءتنا ليله حملت معها مداهمة من رجال الشرطة لنفيق من سكرتنا علي قضبان تضمنا وقضية تطرف نحاكم فيها .
كاد الخوف أن يتمكن منا إلى أن سمعنا أن قضيتنا يرعاها الوطن الأكبر للحرية
( أمريكا ) والذي سيحرص علي ألا نُهان أو يُمس طرفنا
لبثنا ما لبثنا داخل السجن نعامل كأفضل ما يكون، تعد لنا المقابلات الصحفية ونعبر عن آراءنا بكل حرية ،حتى كدت أشعر أن مصر تستحق لقب وطن الحرية
لم نجبر علي الصلاة ولم نجبر على حضور حلقات الوعظ ولم يتم فصل المسلمين عن المسيحيين فنعمت أنا ويوسف بالجوار حتى داخل السجن .
حملني الفراغ والتقليد على الذهاب إلى الصلاة وهناك أصر الشيخ علي ترديدنا بعض العبارات ثم الوضوء ثم أديت الصلاة لأول مره في حياتي .
********
شهران كاملان أذهب فيهما إلى المسجد وأعود ولم يتحرك داخلي ساكن سوى شيء من اللذة أجده في ارتداء الجلباب الأبيض والجلوس في المصلى وترديد كلمات استغفار وتوحيد لا أؤمن حتى بظاهر حروفها ولكنها كانت تحمل متعة كتلك التي تأتينا عند ارتداء ملبس جديد، وسواء اشتريناه أو تركناه في متجره يظل في تجربته متعه .
بعدها مررت بحالة ضيق شديدة ورغبة في الخروج إلي طقوس الشيطان تحولت إلى كآبه ورغبة في العزلة وصوت داخلي يرفض الصلاة .
لم أخجل في أن أعلن عدم رغبتي في الصلاة ورغبتي في الانعزال ..
عشر ليال لم يدخل جوفي سوى ما يحفظ بقائي على الحياة تأتيني فيها أحلام غريبة الملامح
قاذورات – فتاة حسناء تتحول لثعبان – مسجد – مرحاض – عراة_عشب أخضر
أشكال تتداخل في شكل واحد فتخرج لوحة منامي مرهقه متعبة مشوهة
إلى أن حضر شيخ أخبروه عن عزلتي وسقمي فحضر إلي برفقة يوسف،الذي لم يغب عني يوما رغم انشغاله مع القساوسة والرهبان الذين كلفتهم الدولة بإعداد الدروس للمسيحيين .
دفعتني الشكوى لطول الحديث مع الشيخ فيما أمُرّ به من كوابيس وكآبه فقربني من صدره ووضع يديه فوق رأسي وراح يتلو آيات من القرآن شعرت معها برغبة في النعاس ولكنه طلب مني تناول الطعام ثم تلبية دعوته والذهاب إلى المصلى فخجلت أن أردّه.
توضأت علي يديه ثم صلى بنا ركعتين بعدها جلس والتف حوله الحاضرون وأنا معهم وبدأ يتحدث فشعرت بالتيه والشرود فهممت أن أخرج ولكنني تنبهت لصوته وهو يقول
- إن ربك يحبك ينتظرك فلا ترفض يديه الممدودة لك – كفاك امتهان لنفسك – كرمك بأن تعبده هو – كرمك بأن .....
لا أعرف ماذا قال بعدها فقد توقفت هنا وتوقفت بي الدنيا ولأول مرة أشعر بأن الدمعة تقف عند باب عيني تنتظر أن أأذن لها , دمعة تعرف لماذا جاءت ولمن ستكون ،حاولت دفعها بأن أتذكر ليالي الصخب والمجون ولكنني شعرت بالاشمئزاز من نفسي فعدت لحرفه، فإذا بالشيخ يصوّب عينية برفق،كرفق الأب بوليده قائلا :::
""ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله ""
هنا لم أستطع المقاومة رحت أبكي وأبكي وكأني أغسل نفسي من رجسها ونجسها ، تعالى صوت بكائي – حاول البعض تهدئتي فأمرهم الشيخ بأن يتركوني بينما أكمل هو حديثة قليلا وبدأت أهدأ وإذا برغبة عارمة تدفعني للسجود ، فلبيت نداء نفسي بأن سجدت دون صلاة وبينما أنفي تلامس سجادة الصلاة وبينما عطر أقدام المصلين ينفذ إلي صدري، تذكرت أنفي بينما يغط في دماء الكلب
حينها صرخت رعبا وخوفا لأغيب بعدها عن الوعي وأفيق على وجه يوسف أمامي يبكي علي حالي . تبسمت في وجهه وأجمعت قوى حروفي المرتعشة
- أنا بخير يا يوسف متقلقش
- أنا بحبك قوي .. علشان خاطري قوم .. انا مليش غيرك
- يا واد أنا هقوم دلوقتي زي القرد .. حد يحب قرد
-
بعدها ولدت من جديد وذقت حلاوة الإسلام والدروس كمحب وراغب، لا كمن يعاني الفراغ . في ذات الوقت كان يوسف يتلمس طريق العودة وآيات الإنجيل
(( السماء تفرح بخاطيء واحد يتوب أكثر من 99 بارا لا يحتاجون إلي التوبة ))
قبل الجلسة بأيام أخبرني يوسف أن الحكم بالبراءة إذا جاء سيحمل معه سجن آخر له ، إذ أخبره القس أن الكنيسة تحتم انتقاله ومن معه من مسيحيين إلي أحد الأديرة البعيدة فور خروجهم من لاستكمال رحلة الشفاء من عبودية الشيطان .
محكمة ::::
قالها الحاجب معلنا دخول القضاة إلى القاعة ..فحل السكون علي المكان لتقفز ذاكرتي إلي نفس الرجل عندما أعلنها من قبل
محكمة ::::
حكمت المحكمة حضوريا في القضية رقم ( 1 ) تطرف ديني0( عبدة الشيطان ) ............... بالبراءة
-رفعت الجلسة
قالها رئيس القضاة ، ثم انصرف ومن معه من مستشارين ليبدأ صوت الحضور في الهمس ثم الارتفاع ثم التداخل إيذانا بضجيج سمعي شديد صاحبته حركة غير منتظمة في القاعة , امرأة تتناول الهاتف الخلوي لمكالمة أجلتها طوال فترة المرافعة – أب يتلمس شاربة وينظر بحدة تجاه رجل يبدو أنه على خصومة معه في العمل وجمعتهما ساحة القضاء كربين لولدين يجلسان داخل القفص - عشرات من آلات التصوير لا تكف عن الإضاءة بين لحظة وأخرى لالتقاط ملامح وجوهنا تارة والتقاط الصور لكبار الشخصيات تارة أخرى .
جاء النطق بالحكم ببراءتنا تحت عين ومرأى من الصحافة العالمية وخرجت لأستكمل طريق الهداية,, وقطعت علاقتي بجميع أفراد الجماعة عدا يوسف الذي ربطتني به مكالمات هاتفيه وعدني فيها بالزيارة وقت استطاعته.
قطعت على نفسي طريق الضعف والإذعان إلى الشيطان بأن غيّرت مسكني وقمتُ بعملية، أزلت فيها ما بجسدي من وشم وبدأت أسطر سطور حياتي كما أرادها الله ،ومع الأيام وجدت راحتي في الاستماع الدائم للقرآن وأداء الصلاة في وقتها، بعدها بشهور وجدت زينتي في لحيتي و عهدت دروس الوعظ
وفي ليلة حالكة الظلام تم القبض عليَّ بتهمة الانتماء إلى جماعة إسلاميه على أساس أنني أصلي في ذات مسجد الجماعة ( مسجد العودة )– تعجبت ولم يفيد العجب، استنكرت وما فاد الاستنكار – تسعة أشهر نلت فيها من التعذيب ما لا أرى له سبب أو أساس وكلت عشرات المحاميين – راحوا يتبارون مع كل جلسة رفع تهمة الإسلام عنّي .
ولكم تألمتُ حينما أخرج أحد المحاميين بيانا عن القضية السالفة ليجعل من الحمق انتمائي لجماعة إسلامية،بينما كنتُ يوما عابدأ للشيطان وكأن عبادتي للشيطان هي نافذة براءتي من عبادة الله.
عدت إلى قفصي والكلمات تهز القاعة، أقلب وجه يوسف بين حين وآخر ثم أنصت إلى حروف النيابة والمحاميين،، إلى أن جاءت لحظة النطق بالحكم ...........
- حكمت المحكمة حضوريا في القضية رقم ( ( يمنع عرض أرقام الهواتف والجوالات بدون أذن الإدارة ) ) تطرف إسلامي بالسجن أربعة سنوات مع الشغل والنفاذ
- رفعت الجلسة
قالها رئيس القضاة ، ثم انصرف ومن معه من مستشارين ليبدأ صوت الحضور في الهمس ثم الارتفاع ثم التداخل إيذانا بضجيج سمعي شديد صاحبه تحرك غير منتظم في القاعة , اندفاع أم نحو ولدها الماثل جواري خلف شباك القفص تبكيه وتُبكي الدنيا معها – أبّ يتلمس أطراف أصابع ولده التي خرجت من بين الشباك وبينما الكلمات تخرج من فمه ثقيلة هناك ألف رسالة صمت تلومه وتلوم الدنيا , ضوء آلة تصوير يأتي علي فترات متباعدة لالتقاط ملامح وجوهنا تارة والتقاط دموع أهالي من حضر تارة أخرى .. نظرت نظرة أخيرة للجموع حول القفص نساء ورجال وأطفال ثم رفعت أنظاري لتلك الآية عالياً ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) ثم راحت أنظاري تعانق أعين يوسف ،الذي كان محاط باثنين من القساوسة ، وبينما يد الشرطي تجرني.... نظرت في عينيه لتلقي عليه دمعاتي:::
_ لنا الله في وطن لا يعبد فيه إلا الشيطان يا يوسف
*** تمت ***
منقول