( 8 ) نُبُوءَته صَلَّى الله عليه وسَلَّم عن الكَذَّابِين في الحَدِيث:
أخْرَجَ الإمَام مُسْلِم في مُقَدِّمَة صَحِيحه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الله بْن نُمَيْر وزُهَيْر بْن حَرْب؛ ثَنَا عَبْد الله بْن يَزِيد؛ ثَنَا سَعِيد بنْ أيُّوب؛ ثَنَا أبو هَانِي؛ عن أبي عُثْمَان مُسْلِم بْن يَسَار؛ عن أبي هُرَيْرَة؛ عن رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال [ سَيَكُون في آخِر أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثونَكُم ما لَمْ تَسْمَعوا أنْتُم ولا آبَاؤكُم، فإيَّاكُم وإيَّاهُم ].
دَرَجَة الحَدِيث:
صَحِيح، أخْرَجَه الإمَام مُسْلِم في مُقَدِّمَة صَحِيحه.
تَحَقُّق النُّبُوءَة:
صَدَقَ رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، حَيْثُ ظَهَرَ في أُمَّته صَلَّى الله عليه وسَلَّم أُنَاس رَغِبوا لسَبَبٍ أو لآخَر في اخْتِلاق الأحَادِيث ووَضْعهَا ونِسْبَتها إلى رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم زُورَاً وبُهْتَانَاً، فجَاءوا بأحَادِيث لَمْ يَسْمَعها الرَّعِيل الأوَّل مِنَ الصَّحَابَة والتَّابِعِين، بَلْ لا يَقْبَلها العَقْل السَّلِيم ولا يَسُوغها الفِكْر المُسْتَقِيم، ما هي إلاَّ أحَادِيث مَوْضُوعَة مُخْتَلَقَة افْتَرَاهَا أُولَئِكَ الكَذَّابون والوَضَّاعون، وسَوْفَ يَفْتَرِيها أتْبَاعهم الَّذِين يَحْذون حَذْوهم ويَنْقِلون عنهم، الَّذِين قال رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم عنهم [ إنَّ كَذِبَاً عَلَيَّ لَيْسَ ككَذِب عَلَى أحَد، فمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدَاً فليَتَبَوَّأ مقْعَدَه مِنَ النَّار ]، وقال [ مَنْ تَقَوَّل عَلَيَّ ما لَمْ أقُل فليَتَبَوَّأ مقْعَدَه مِنَ النَّار ]، وقال أيْضَاً [ إيَّاكُم وكَثْرَة الحَدِيث عَنِّي، فمَنْ قال عَلَيَّ فليَقُل حَقَّاً أو صِدْقَاً، ومَنْ تَقَوَّل عَلَيَّ ما لَمْ أقُل فليَتَبَوَّأ مقْعَدَه مِنَ النَّار ]، ومَعْنَى [ إيَّاكُم وكَثْرَة الحَدِيث عَنِّي ] أي دُونَ تَثَبُّت مِنْ صِحَّة مَا يُقَال، ويُؤَكِّد هذا المَعْنَى قَوْله صَلَّى الله عليه وسَلَّم [ فمَنْ قال عَلَيَّ فليَقُل حَقَّاً أو صِدْقَاً ]، وقَوْله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم [ مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيثَاً يَظُنّ أنَّه كَذِب فهُوَ أحَد الكَذَّابين ].
الأمْثِلَة التَّطْبِيقِيَّة (مُجَرَّد أمْثِلَة):
1. نَرَى اليَوْم كَثِيراً بَعْض مُحِبِّي الخَيْر يقومون بطَبْع وَرَق وتَوْزِيعه عَلَى النَّاس في المَسَاجِد والشَّوَارِع؛ أو يَنْشُرُونَه عن طَرِيق الإنْتَرْنِتّ عَبْرَ البَرِيد الإلِكْتِرُونِي أو المَوَاقع والمُنْتَدَيَات؛ بِهِ أحَادِيث تَحُثّ عَلَى الخَيْر وفَضَائِل الأعْمَال، دُونَ أنْ يَتَحَرّوا صِحَّة هذه الأحَادِيث، وهي في مُعْظَمها أحَادِيث مَوْضُوعَة، والبَقِيَّة البَاقِيَة ضَعِيفَة، وقَلَّمَا نَجِد بَيْنها حَدِيث صَحِيح.
2. غَالِبِيَّة ما يَنْتَشِر عَلَى البَرِيد الإلِكْتِرُونِي وفي المُنْتَدَيَات والمَوَاقِع مِنْ أحَادِيث أكْثَرها تُكْتَب بدون روَايَة أو سَنَد، بَلْ يَكْتَفِي كَاتِبها بقَوْله (عن رَسُول الله أنَّه قال، قال رَسُول الله، جَاءَ في الحَدِيث الشَّرِيف .. الخ)، ودَائِمَاً ما تُنْشَر هذه الأحَادِيث مُصَاحِبَة لعِبَارَة (انْشُرْهَا ولَكَ الأجْر، هذه أمَانَة في عُنُقك أن تَنْشُرها، اسْتَحْلِفُكَ بالله أنْ تُرْسِلها ... الخ) أو أي عِبَارَة مِن شَأنها التَّأثِير عَلَى القَارِئ بحَيْثُ يَعْتَقِد في صِحَّة الرِّسَالَة وأنَّه آثِم لو لَمْ يَنْشُرها لِمَا فيها مِنَ الخَيْر، ويَسْتَخْدِمون في ذَلِك بعض الأدِلَّة الصَّحِيحَة مِنَ القُرْآن والسُّنَّة التي تُحَذِّر مِنْ كِتْمَان العِلْم وضَرُورَة أدَاء الأمَانَة وما إلى ذَلِك لتَدْعِيم مَوْقِفهم، وما ذَلِك إلاَّ قَوْلٌ حَقّ أُرِيدَ بِهِ بَاطِل، وما ذَلِك إلاَّ لصَرْف القَارِئ عن التَّحْقِيق في صِحَّة الحَدِيث والرّوَايَة، حتى وَصَلَ الأمْر بكَثِير مِنْهُم إلى صِيَاغَة أدْعِيَة مِنْ عِنْد أنْفُسهم ونَسْبها إلى رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم، ثُمَّ يُحَدِّدون عَدَد مُعَيَّن لقِرَاءَة هذا الدُّعَاء أو عَدَد مُعَيَّن لنَشْره، ويَخْتَلِقون قِصَص ما أنْزَلَ الله بها مِنْ سُلْطَان عَلَى أنَّ مَنْ يَفْعَل سَيُجْزَى بجَزَاء كَبِير، وأنَّ مَنْ لا يَفْعَل سيُبْتَلَى بضَرَر عَظِيم، وهذا يُشَابِه بِدَع الصُّوفِيَّة في العَقِيدَة إنْ لَمْ يَكُن أصْله مِنْ عِنْدهم.
3. ما نَرَاه ونَسْمَعه عَلَى ألْسِنَة بَعْض الدُّعَاة وأئِمَّة المَسَاجِد والمُتَكَلِّمِين في الدِّين بغَيْر عِلْم وتَحْقِيق مِنْ الاسْتِشْهَاد بالأحَادِيث الضَّعِيفَة والمَوْضُوعَة والإسْرَائِيلِيَّات مِنْ أجْل تَرْقِيق قُلُوب النَّاس واجْتِذَابهم، وكأن الدِّين قد خَلا مِنْ كُلّ صَحِيح يَصْلُح لتَأكِيد المَعْنَى الَّذِي يُرِيدُونه حتى يَلْجَئوا إلى الضَّعِيف والمَوْضُوع، ولا نَعْرِف هَلْ هو جَهْلاً مِنْهُم وعَدَم إتْقَان في تَحَرِّي صِحَّة ما يَقُولُون؛ أمْ أنَّه عَمْد لتَحْقِيق هَدَفٍ ما، والأفْظَع مِنْ ذَلِك أنهم رَوَّجوا لسِلْعَتهم هذه بنَاءً عَلَى ظَاهِر لَفْظ قَالَ بِهِ بَعْض العُلَمَاء وهو [ الأحَادِيث الضَّعِيفَة يُؤْخَذ بها في فَضَائِل الأعْمَال ]، وكَالْعَادَة، أخَذُوا ظَاهِر اللَّفْظ وتَرَكُوا الشُّرُوط والضَّوَابِط، وكَالْعَادَة أيْضَاً، أخَذُوا برُخَص العُلَمَاء بِمَا يُوَافِق هَوَاهُم، والسُّؤَال: هَلْ عَجَزَت أحَادِيث رَسُول الله صَلَّى الله عليه وسَلَّم الصَّحِيحَة عن بَيَان فَضَائِل الأعْمَال والإرْشَاد إلَيْهَا حتى نَلْجَأ إلى الأحَادِيث الضَّعِيفَة والمَوْضُوعَة فنَسْتَقِي مِنْهَا فَضَائِل الأعْمَال؟ وإذا كَانَت الأحَادِيث الضَّعِيفَة والمَكْذُوبَة يُؤْخَذ بها في فَضَائِل الأعْمَال، فهَلْ مَعْنَى ذَلِك أنَّ الأحَادِيث الصَّحِيحَة يُؤْخَذ بها في خَبَائِث الأعْمَال أمْ ماذا؟ وما مَعْنَى فَضَائِل الأعْمَال أصْلاً؟ هَلْ هي صِلَة الرَّحِم، الصَّدَقَة، التَّقْوَى، حُسْن الخُلُق، بِرّ الوَالِدَيْن، أمْ أنَّهَا أُمُورٌ أُخْرَى لَمْ تَتَحَدَّث عَنْهَا الأحَادِيث الصَّحِيحَة؟ وحتى إنْ كان الحَدِيث الضَّعِيف لَهُ شَاهِد مِنْ حَدِيث آخَر صَحِيح، فإمَّا أنْ يَرْتَقِي الحَدِيث الضَّعِيف بهذا الشَّاهِد لدَرَجَة الحَسَن ولا يُعَدّ ضَعِيفَاً، وإمَّا أنْ يُسْتَشْهَد بالشَّاهِد نَفْسه وهو الحَدِيث الصَّحِيح ولا دَاعِي وَقْتَئِذٍ للضَّعِيف، وإمَّا أنْ يَكُون ضَعِيفَاً ولَيْسَ لَهُ شَوَاهِد يُتَقَوَّى بِهَا فلا يُؤْخَذ بِهِ ولا يُنْسَب لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم، وكُلّ هذا في الحَدِيث الضَّعِيف، حَتَّى العُلَمَاء الَّذِينَ أبَاحُوا اسْتِخْدَامه وَضَعُوا لَهُ شُرُوطَاً وضَوَابِط، ولَمْ يَقُولُوا نَفْس القَوْل في الحَدِيث المَوْضُوع، فأيْنَ هؤلاء المُقَلِّدِين عن جَهْل مِنْ قَوْله صَلَّى الله عليه وسَلَّم [ إنَّه لَيْسَ شَيْء يُقَرِّبكُم إلى الجَنَّة إلاَّ قَدْ أمَرْتكُم بِِهِ، ولَيْسَ شَيْء يُقَرِّبكُم إلى النَّار إلاَّ قد نَهَيْتكُم عَنْه, إنَّ روح القُدُس نَفَثَ في رَوْعي إنَّ نَفْسَاً لا تَمُوت حتى تَسْتَكْمِل رِزْقها، فاتَّقوا الله وأجْمِلوا في الطَّلَب, ولا يَحْمِلَنَّكُم اسْتِبْطَاء الرِّزْق أنْ تَطْلُبُوه بمَعَاصِي الله, فإنَّ الله لا يُدْرَك ما عِنْدَه إلاَّ بطَاعَته ].