سيول جدة و ميدان الترقِّي
كان اليوم صحوا ، متلألأ السماء ، متألق النسيم ،
يبث السعادة في النفوس بألوان الطيف المتجلية في السماء ،
نعم ألوان الطيف رأيتها ولم أعلم أنها تؤذن بتلون الحال
وتقلب الأحوال ،
استمرت الخطا إلى المدارس ،
بقلوب تلهج بالدعاء للطلبة والطالبات بأن ييسر أمرهم .
وبعد برهه من الزمن إذ بضياء وجوههم يتجلى :
الحمد لله الاختبار كان سهلا ، سعدتُ وسعد الجميع ،
وظننا السماء قد سعدت معنا ،
قطرات هنا وهنا صرخ الجميع فرحا بها ،
ولعبوا في هذه القطرات التي لم يُتصور أن تتحول
من مصدر فرح وأمان إلى مصدر حزن وخوف ،
تجاذبت القطرات أطراف الحديث واشتد وطأة حديثهن ،
ويبدو أنه قد حصل بينهن عراك
فهذه القطرة تعاكس الأخرى ويظهر لمن يراهن
أنهن في سباق وجلاد .
نظرت إلى السماء فإذا بها قد لبست جلبابها
واحتجبت الشمس في سرادق الغيم ،
وبدأ الضياء في المغادرة ، وأبدل مكانه ضواء
ولكن من نوع آخر ، إحمرار مصحوب بإذان الظلام ،
حينها قام خطيب الرعد الذي ارعد أركان المبنى
بصوت رعدتين كادت تصم الآذان،
صرخ الطالبات صرخة الفم الواحد ،
اجتمع المعلمات حولهن مذكرات بالدعاء :
( اللهم حولينا ولا علينا ) ،
شعرتُ حينها أن صوت الرعد يحذر الجميع
أن هذه الأمطار ستجلب شيئا مختلفا فاحتاطوا ،
غطى الماء الأقدام وشرع في السوق ،
ياترى ماذا يسوق ؟؟
تم إخلاء المبنى والمغادرة إلى المبنى الآخر بوجوه
يصحبها الابتسامات المتوشحة بوشاح الخوف،
قُطعت الكهرباء مخافة الالتماس الكهربائي،
ازداد الأمر كلاحة وظلمة وازددنا حينها حيرة
في ضبط أوضاع الفتيات .
وإذا بي أجد أنني نسيت حقيبتي :
أخواتي هل ممن تصحبني ؟؟
أجابت إحداهن : نعم وأنا نسيت عباءتي ،
هيا بنا نجلب أغراضنا عدنا إلى المبنى ،
صعدنا إلى الأعلى أخذنا العباءة والحقيبة وشرعنا في الخروج
ولكن لا تعليق !!
ذهلنا بأن الماء قد تألق في السباق ، وزادت ضراوته ،
قلت لها : أترين ما أرى ؟؟؟
بسم الله توكلنا على الله هيا إلى المبنى الآخر
فالمياة قد غمرت الساق
ولا مجال للانتظار ، فالأمر إلى اشتداد .
تصارعت الأقدام مع المياة بحثا عن قطع السبيل
إلى الهدف المنشود ،
وصلنا إلى المبنى وإذا بسلمه قد غمر بالماء صعدنا
وقلنا هذا المبنى مرتفع لعله لا يصل إلينا هذا الماء ،
دخلنا فإذا بقطرات مطر من نوع آخر !!
دموع الطالبات في حيرة من أمرها ،
وقد كلحت حينها وجوههن ،
خاصة المرحلة الابتدائية، تخاطب المعلمات معهن ،
لُقنوا الدعاء اطمئنت نفوسهن ،
وهدأت الرعدة بداخلهن ،
وفي تلك الأوقات ازدادت عظمة الخطب
وعراك القطرات وسباقهن و هطلت الأمطار بمثل أفواه القرب
وكأنما انقطع شريان الغمام ،استمرت المياة فترة طويلة
حتى أنني قلت في نفسي : سبحان الله ماهذه السحابة التي
لا تجف جفونها ، ولا يخف أنينها ؟؟
صعد الماء إلى المبنى ،
في بداية الأمر قمنا بمصارعته بدفع الأبواب ،
ولكن لا جدوى فقد كان سلطانه قويا ، ومنافذه جمة ،
تركنا الأبواب وسارعنا للدور الثاني ،
فقد غمرت المياة الدور الأرضي برمته ،
وأصبح كل مافيه يسبح ،ولهج الجميع بالدعاء :
(اللهم حولينا ولا علينا ) ،
ظننت حينها أن الوجوه لن تزال شاحبة كالحة !!
ولكن سبحان الله الذي أدخل الأمن
على تلك القلوب الصغيرة ،
فقالت إحداهن :
معلمة الحمد لله أننا في البحر سويا ،
لا أعلم آجادة هي أم تمزح!! ،
ولكن كل ما أعلمه أن وجهها قد علته البراءة ،
وكساه الأمن ، ووشَّته الابتسامة .
قلت في نفسي سبحان من أشعرك بذلك .
ولم أزل حينها في تنقل بين الطالبات
والمعلمات أنظر هنا وهنا ،
ويشرق قلبي ويتلألأ بصبر الجميع وثقتهم بالله ،
وقد سكن روعهن ،
والتحف عليهن جناح السكينة ، وحصل لهن الطمأنينة .
كلمات صادرة من المعلمات فحواها :
“أن مقادير الله تعالى لا تجري إلا على موجبات الحكمة،
وتدبيره لا يخلو من باطن المصلحة،
أو ظاهر النعمة. وهذا أمر الله لا يقابل إلا بالرضا،
والصبر على ما قضى وأمضى “.
صلى الجميع الظهر، و سكن الفتيات فبعضهن أخذن
يتجاذبن أطراف الحديث ،
والبعض الآخر آثر النوم ليغمر القلق
في بحر الأحلام ويخلط الواقع
بالخيال لعله أن يهوِّن وطأة ما يرى .
نظرت من شرفة الدور الثاني فهالني ما رأيت ،
واحتقنت دموع قلبي
لم يبق من أبواب الفناء إلا ربعها ،
وثُلم الفؤاد حين رأى المكتبة
ـ قلب المكان وجلاله ، وحلته ودولابه ـ
قد غمرتها الماء ولم يبق من تغطية بابها إلا القليل ،
فسارعت بثبيت الله قائلة :
( قدر الله وماشاء فعل ،
اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها )
أذن العصر سارع الجميع للصلاة ،
وكأني أرى في أعينهن أحداث السيل الماضي ،
ولسان حالهن يقول : رأيناه ولم نظن أن نكابده !!
ولكن قضاء الله نافذ ، وحكم الله تترى ،
جعل الشفاء في كي النار ،
والإستشهاد سبيل للرفعة مع الأبرار ،
قد يداوى السقيم بالسم ،
فلتتلمح الحكم لتترقى بها .
حينها أمسكت السماء ماءها ،
تصالحت القطرات وزان عيشها ،
سكنت السحب وهجعت ،
وماهي إلا برهة من الزمن إذا بالماء قد غيَّر مساره
وأخذ يتقهقر إلى الخارج مؤذنًا بانتهاء مكثه ،
الحمد لله .. الحمد لله فرج الله قريب.
مر الوقت سريعا أتانا ضيف جديد
يا مرحبا يا مرحبا ،
الليل وما أدراك ما الليل ؟ لباس مميز ،
وشعور لا يوصف .
أسدل الليل أستاره وودعت الأرض نهارها ،
الشموع أين الشموع ؟؟
الأطفال الفتيات سيرتعدون من الظلام الكالح .
اشعلت الشموع وسكن الجميع فلا خوف بحمد الله ،
أذن المغرب صلى الجميع وماهي إلا لحظات
إذ بطائرة الدفاع المدني تحوم حول المكان لتعاين الأوضاع ،
وصلت إلينا سيارة من الدفاع المدني جادت بما لديها من الأغذية ،
أكل الفتيات ومن في المبنى ،
ثم أذن العشاء فصلى البعض
وآثر البعض الآخر الانتظار
لتجلي بشارات النجاة فلعلهن أن يصلين في بيوتهن .
أتت سيارات الدفاع المدني الكبيرة بدأت االفتيات
بالاستعداد للنزول ،
بدأ الإخلاء بالأصغر إلى الأكبر بنظام وترتيب
وخرجنا من هذا المبنى المنكوب ،
وفي حال خروجي أخذت أتلمح الجداران
وأواسيها بما مر بها ،
فخال لي أنها تبتسم وتجيبني: أنا لم أتضرر دام أنكم بخير ،
ابتسمت لها وأجبتها : أدامك الله شامخة
فطالما جمعت طلب العلم بداخلك ،
و سعد رواده بأحضانك ، دمت شامخة .
لحظات متوهجة لا أخال نسيانها …
ـ تذكرت فيها مدى البطر الذي نعيشه ،
فكل ما يتصارع عليه البشر من متاع الدنيا ،
هاهو يطفو فوق مياة السيل ،وكأن لسان حال السيل
قائل لنا : الدنيا فنا ، ومتعها هباء ،
وماهي إلا وسيلة ومن اتخذها غاية غص بها حتى أماتته .
فلا تكن ممن لبس ثوب الخذلان وجاهر بالغي والعدوان
وقابل النعمة بالكفران ،
ولتعلم أن من غمط النعمة استنزل النقمة .
وأن استدامة النعم بدوام شكرها فهي لها قيد ولصاحبها تسديد .
ـ تذكرت حينها إخواننا اللاجئين في كل مكان
وما يعانونه من عدم توفر متطلبات الحياة البسيطة ،
وما يكابدونه من وجود الأطفال معهم
ومسؤولية بث الأمن في قلوبهم .
ـ تذكرت حينما رأيت الأجهزة وقد نفذ شحنها
والكهرباء ظاهريًّا بجانبنا ،
ولكن لا حياة فيها ، حينها ازددت يقينا لمعنى توفر الأسباب
دون قدر مكتوب ، لا جدوى منه.
دروس وعبر فهل من معتبر ؟؟
فيامن حرمت القدر من وشيِّه ، ومنعته الجلوس على كريسيه ،
هلَّا انكففت ؟؟!!
أكثر الناس بوصف العروس والعجوز ،
فهل من متأمل بحكم أقدار الله ؟؟!!
نعم أسباب الحدث تناقش ولكن لا يكن ذلك
بإغفال النظر عن التربية
ولوم النفس على عتوها في حق أوامر ربها فالله تعالى قادر على عباده منعم
عليهم بفضله يعاقبهم بعدله يربيهم بحلمه ورحمته،
ولنعلم أن التربية دلالة المحبة
وأن الله يرقي عبده بأقداره ، وفي الأقدار أسرار ،
من تأملها ورقى نفسه بها ناله الخير مدرار …
فكونوا منهم يارعاكم الله .
وما قوم جدة منكم ببعيد !!
م/ن