في أفياء الكربة..
(1)
تشتدُّ الكربة وتُظلم الّنفس ,فتبحثُ عن فضاء رحب لتفرّ إليه من ضيقٍ أحاط بها أو قد أحاط.
نقطةٌ من نور ٍ في ظلمة ٍ حالكة ٍ يُفتش عنها..
وتقتربُ جدران صدره ِ لتخنقَ بصيصاً من أمل .. ويُصارع العبدَ لحظة حياة ٍ ليستسلم للموتِ موت َ الأمل..
وتصومُ نفسهُ عن كلِّ جميل ٍ
ويتوقف ُ الزمنُ عند كربتهِ ليتوقفَ عمرهُ عن كلِّ عمل ٍ وحركة ٍ نافعة..
ويحدقُ اليأسُ بأيامه ِ فتمرُّ به واعظةً :"ياهذا !!إنّ كانَ زمنكَ توقف ,فأيامكَ ولياليكَ تمضي بسرعة ٍتُودّعك على خجل ٍ,تبسط ُلك فضاءها الرحيبُ لتملأ خزائنَ عملكَ بكنوزٍ تصعد ُإلى من "إليه يصعدُ الكلمُ الطيّبُ والعمل ُالصالح ُيرفعهُ"
فهلاّ أوقدتَ من ظُلمةٍ احلولكتْ في نفسٍ بشائرَ خيرٍ تُساق ُإليكَ فتأتيكَ بخيرات.
((عجب ربكم من قنوط عباده))
وهلاّ كشفتَ رداءَ اليأسِ فاستقبلتَ به ِغيثَ السماء ِيروي جفافَ نفسٍ ويضفي على النفسِ بهجةَ "إنّه حديثُ عهد ٍ بربّه"
(2)
جُبل العبد على عجلٍ, فسابق في سيره قدراً قد كتب وتسلقت أمانيه جبال مشقة فأرادت صعوداً وصعوداً غير ممكن ..وناطحت أمانيه مقادير قدرت بمقدار موزون , لو بسط لها رداء الرضا بحسن التدبير لاخضوضرت نفسه بالأمل ولأثمرت بكل نافع ومفيد..
استفرغ الوسع وقطع حبال الرجا أو ضعف منه الرجا فلم يدافع حزناً وكئآبة أحاطت بنفسه فأظلم منها كل شيء..ألا يعلم ذلك العبد الفقير أن الله قضى مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض..فلم لايمسح بكف الرضا على نفس سقيمة غاب عنها بلسم الأمل..فتطيب لقضاء الله وتسلم "إنا لله وإنا إليه راجعون"
(3)
أراها تشتد وتشتد وتشتد حتى تكاد تخنق صاحبها فتفارقه الرغبة في الحياة بل في كل شيء..ويمضي يفتش في دفاتر أيامه عن مخرج,ويحدق بنظر فكره إلى كل يدٍ ممتدة إليه بعون ونصرة..فيرى الأمل قد بسط في تلك الكفّ الممدودة إليه فيقبل إليها إقبال الذي ظفر بطوق نجاة في لحظة قد شارف فيها على الهلاك..ويشرق وجهه بابتسامة رضا نجوت..وهل ياترى نجا!!
فإذ بالكف الممتدة إليه تكفُّ عنه بقدر الله, ليعلم ذلك العبد أنه لاملجأ ولامنجا من الله إلا إليه ..وأنّ طوق النجاة معلق ببابه سبحانه إن شاء طرحه إليك وإن شاء كفّه عنك "قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر "
فهلاّ تعلمت أدب السؤال..وأدب الانكسار, فانطرحت بين يديه.
."قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب"...
(4)
سبحان الله !
دروسٌ تتكرر على العبد ,تخط بمداد لايزول أنّ هنا عبرة فالتفت إليها..وهنا درس فاخرج منه بفائدة ولاتفوتها ,فإن اللطيف يهديك لنور العلم ويربيك لترتقي مدارج الكمال "وما يتذكر إلا أولوا الألباب"..
لكنّ العبد نظره الممدود للعاجل , يطيش بعقله..فتخطئه فرحته بما ظفر أن يهتدي لنور العلم ,فيفرح بما ألقي إليه كما يفرح الصبي حين يطيل صراخاً وبكاءً, فيطير فؤاد الصغير لما ظفربه, ولايلتفت لكرم تلك اليد الممدودة إليه بعطاء..
فيحمله ماجبلت عليه نفسه من جحود ونسيان أن يغمض عين نفسه عن إحسان بينما هو يطيل نظراً فيما ظفر به فرحاً مسروراً فيحبس بالنعمة عن المنعم.. ويفوته الكثير ,ويفوته درس عظيم ,يمضي زمان وآخر ويعاوده الدرس نفسه فلعله يفيق من غفلة أو يستيقظ من سبات..فيخرج من ذلك بعبرة!!
(5)
ليتني أتعلم بعد كل ضيقٍ درساً دوماً أخرج به !
لكني وللأسف لاأحسن الحفاظ عليه في خزينة الذاكرة عظة وعبرة..
في كل مرة تشتدفيها الكربة وتعلن اكتساحاً لميدان نفسي فتعمل جيوش الحزن فيها إعمالاً ,فتصبح أرضي لامخضرة بل هشيماً مصفراً..وفي لحظة انقطاع رجاء من كل شيء ,لما اضرب كفاً بكف واسلم عدتي وسلاحي وأنظر إلى علو أستمطر الفرج ..في لحظة غفلة وسكون وإياس إذ بسحابة مثقلة تهمي فتغسلني ..وتستبشر نفسي بفرح..وتفك روحي من قيد وأعلم ساعتئذ أن الفرج آتٍ ولو اشتدت كربة حتى قاربت على إهلاك..وأنني حين اقطع علائق نفس بكل شيء الا الله واستسلم استسلام الخاضع الذليل لمولاه تزهر أرض القلب برضا بقدر وتبرؤ من حال وقوة فيقبل الفرج بجيوشه الفاتحة لينقذني من إياس ..فياليتني أتعلم..لكن عقلاً يذهل لمصاب ..ونفس تتعلق بأوهام فتعمي بصر القلب عن رؤية ضياء الشمس ..
(6)
مرارة في فمي أجدها ,يستحيل فيها كل جميل مرّ المذاق..تتراقص الصور أمامي تغريني وأنا في ضيق أن تبسمي ..وتبسمي ,,واسعدي وتضيق علي حتى أكاد أختنق لأرى الأفق أصبح رمادي بامتداد نظري إليه يزداد ضيقي أكثر..فتُجيش نعم وتمر بي محيية إياي أن أشرقي فأنت فوق الأرض ,,وأنت في نعمة ,بل نعم فلم لايمتد بصرك إلى عطايا وهبات كانت ومازالت..وحتى في ضيقك ..أنت مازلت تتنفسين وتسبحين وتحمدين وتقولين صوتاً يخترق الغمام.."يارب ,من لي سواك إلهاً ورباً أرجوه وأدعوه يارب كُن لي ولاتكن علي..يارب أبواب غلقت في وجهي ولم يبق لي إلا بابك فإذن لأمة مسكينة أن تلقي أثقالها على أعتابك وأن تغسل أوضارها بدمع مناجاتك "
منقول للفائدة