جاء القرآن الكريم ليصحح عقائد الناس وتصوراتهم، ويغير سلوكياتهم، التي لا تلائم منهج الحق الذي جاء به، مبينًا لهم العقيدة السليمة التي عليهم أن يلتزموا بها، ومرشدًا إياهم إلى السلوك السوي المفضي إلى جنات النعيم.
ومن العادات التي كان عليها أهل الجاهلية ما أخبرت عنه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ* بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِ*هَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ* مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].
وقد ذكرت كتب التفسير جملة من الروايات حول سبب نزول هذه الآية، نأتي على أهمها فيما يلي:
الرواية الأولى: عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: "نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا، فجاءوا، لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قِبَل بابه، فكأنه عُيِّر بذلك، فنزلت: {لَيْسَ الْبِرُّ* بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِ*هَا وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ* مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}" (رواه البخاري ومسلم، وهذه الرواية أصح ما ورد في سبب نزول هذه الآية).
الرواية الثانية: عن جابر رضي الله عنه، قال: كانت قريش تدعي الحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار، وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: «ما حملك على ما صنعت؟»، قال: رأيتك فعلته، ففعلت كما فعلت، فقال: «إني رجل أحمسي»، قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية (رواه الحاكم في المستدرك وصححه).
ونحو هذه الرواية، ما روي عن قيس بن حبتر من أن ناسًا كانوا إذا أحرموا، لم يدخلوا دارًا من بابها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارًا، وجاء رجل من الأنصار فتسوَّر الحائط، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرج من باب الدار، خرج معه الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حملك على ذلك؟» قال: يا رسول الله، رأيتُك خرجتَ منه، فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني رجل أحمس!»، فقال: إن تكن رجلا أحْمس، فإن ديننا واحد! فأنزل الله تعالى {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} الآية. (ذكره السيوطي، وهو حديث مرسل).
وفي رواية قريبة رواها الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوه شيئًا، أحرم فأمن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته، واتخذ نقبًا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، كان بها رجل محرم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستانًا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجل من ورائه: يا فلان، إنك محرم، وقد دخلت! فقال: «أنا أحمس!» فقال: يا رسول الله، إن كنتَ محرماً، فأنا محرم، وإن كنتَ أحمس، فأنا أحمس! فأنزل الله تعالى الآية، وأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها. ونحو هذا مروي عن قتادة والزهري وغيرهما.
الرواية الثالثة: روى الطبري عن إبراهيم النخعي، قال: كان ناس من أهل الحجاز، إذا أحرموا، لم يدخلوا من أبواب بيوتهم، ودخلوا من ظهورها، فنزل قوله سبحانه: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.
ونحو هذه الرواية ما رواه الطبري عن قتادة، قال: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهلَّ أحدهم بحج أو عمرة، لا يدخل دارًا من بابها، إلا أن يتسور حائطًا تسورًا، وأسلموا وهم كذلك. فأنزل الله تعالى في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها.
الرواية الرابعة: عن محمد بن كعب، قال: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل الله هذه الآية. (أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد ضعيف).
الرواية الخامسة: عن عطاء، قال: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم، دخلوا منازلهم من ظهورها، ويرون أن ذلك أدنى إلى البر، فأنزل الله هذه الآية.
الرواية السادسة: أخرج الطبري عن مجاهد، قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم ثقب كوة في ظهر بيته، فدخل منها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين فدخل من الباب، وذهب المشرك ليدخل من الكوة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شأنك؟»، فقال: إني أحمسي، فقال: «وأنا أحمسي»، فنزلت. وهذه الرواية تفيد أن هذا الفعل كان من مشركي مكة.
وهذه الروايات جميعها، ما عدا الأخيرة، تفيد أن هذا الفعل إنما كان من عمل الأنصار، وأنه كان عادة عندهم منذ الجاهلية، واستمر إلى أن نزلت هذه الآية، تبطل هذه العادة. وقد اتفقت الروايات على أن (الحمس)، وهم قريش وقبائل أخر، كانوا لا يفعلون ذلك، فيدخلون البيوت من أبوابها وهو محرمون، بخلاف غيرهم. سموا حُمُساً؛ لتشددهم في دينهم، فلا يقفون بمزدلفة وعرفة مع الناس، ويقولون: نحن أهل الله، فلا نخرج من الحرم.
قال ابن حجر في (الفتح): "اتفقت الروايات على نزول الآية في سبب الإحرام، إلا ما أخرجه ابن حميد بإسناد صحيح عن الحسن، قال: كان الرجل من الجاهلية يهم بالشيء يصنعه، فيُحبس عن ذلك، فلا يأتي بيتًا من قِبَل بابه، حتى يأتي الذي كان همَّ به. فجعل ذلك من باب الطيرة. وغيره جعل ذلك بسبب الإحرام".
وقد بين الزهري السبب في صنيعهم ذلك، فقال: "كان ناس من الأنصار، إذا أهلوا بالعمرة، لم يحل بينهم وبين السماء شيء، فكان الرجل إذا أهلَّ، فبدت له حاجة في بيته، لم يدخل من الباب من أجل السقف، أن يحول بينه وبين السماء"، ولا شك، فإن ما جاء في (الصحيحين) بخصوص سبب نزول هذه الآية هو الذي ينبغي أن يعول عليه، والروايات الأخرى شارحة ومكملة وموضحة لمقصوده.
وحاصل هذه الروايات يفيد إبطال عادة كان عليها أهل الجاهلية، أو كان عليها بعض المسلمين من الأنصار في بداية عهدهم بالإسلام، وهي أنهم كانوا إذا قصدوا البيت الحرام للحج، ثم عادوا منه، أنهم لا يدخلون بيوتهم من أبوابها، بل من ظهورها، فأبطل القرآن ذلك السلوك، وأمر المسلمين بأن يدخلوا البيوت من أبوابها؛ لما في ذلك من التكلف والمشقة المخالفة لمقصود الشرع.
والأمر المستفاد من هذا التوجيه الإلهي، هو أن على المسلم أن يقصد إلى الأشياء من حيث ينبغي أن تُقصد، ويطلبها من المكان الذي ينبغي أن تطلب منه.
ومما يجدر ذكره هنا، أنا أبا عبيدة -وهو من أئمة اللغة- ذكر أن هذه الآية من باب ضرب المثل، ويكون المراد منها: ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن البر التقوى، واسألوا العلماء. كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه.