القرآن الكريم.. نـور وهدايـة
- القرآنُ نور:
فالقرآن (نور) يُبدّد الظلمات التي تُخيِّم على القلب فيُضيء عواطفه، والتي تتراكم على العقل فيفتح أفكاره، وتحيط بالروح فينعش أشواقها، وتحدق بالحياة، فيكشف لنا طريق حركتنا فيها: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة/ 15).
ماذا يفعل النور؟
يُضيء الظلمات، يُنير العتمة، فإذا الأشياء التي كانت قبل النور (سوداء) و(متشابهة) أو لا ملامحَ لها، ولا أقدر على تمييز بعضها عن بعض، واضحة للعيان، مختلفة الأشكال والألوان.. وأستطيع أن أتبيّن مواضعها من غير أن أرتطم بها أو تُسبِّبُ لي جروحاً أو كسوراً.
قبلَ أن يأتي النور.. كنتُ أخبطُ في (الظلام) وفي (الخوف) وفي (الوحشة) وفي (القلق) الشديد..
بعدَ أن جاءَ النور، أصبحتُ آمناً مطمئنّاً وقد تبدّدت وحشتي، واستكانَ قلقي، فلم أعد أستوحش، ولم يعد ينتابني قلق.
الظلمَةُ سِتارٌ حاجب.. النور ضياءٌ كاشف.
هناك أنا (أعمى).. هنا أنا (بصير).
(القرآن) كنور دليلي إلى خير سبيل.. وفي نوره (يتجلّى) الله في قدرته وسطوته وهيبته وجلاله وحضوره ورحمته، من غير أن أراهُ بعيني.
- القرآن بصائر:
والقرآن (بصائر)، والبصيرة هي الوعي.. أو العين الداخليّة التي نرى بها الحق والخير فنتبعهما، والباطل والشر فنجتنبهما، فهي كما العين الخارجية تحتاج إلى نور تبصر به.. والقرآن هو نور البصيرة: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (الجاثية/ 20).
البصائر جمع (بصيرة).. القرآن إذن ليس بصيرة واحدة، وإنّما هو عدّة بصائر، وزيادة الخير – كما يُقال – خير، فبدلاً من أن أتسلّح بعينين يزوِّدني القرآن بعدّة عيون، فما لا أراهُ بهذه أراهُ بتلك..
عيني (باصرتي).. تريني الأشياء من حولي..
(البصيرةُ).. تفتحُ لي طرقاً أوسع.. مدى من الرؤية أكبر.. تجعلني أرى ما لا يُرى بالعين المجرّدة، وما لا تطاله اليد، أو يُطركه العقل بإمكاناته المعروفة.
البصيرةُ.. إتِّساع مدى رؤية العقل.
- القرآن هداية:
والقرآن (هداية) إلى الطريق الصحيح بعد ضياع وابتعاد عنه، ولا يمكن لأحدنا أن يهتدي إلى شيءٍ في العتمة.. هل جرّبتَ أن ترى الأشياء بعد انقطاع الكهرباء وانطفاء النور؟ (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2).
الأعمى يستدلّ على الطريق بوسائط معيّنة.. والبصير يعتمد على ضوء عينيه وقدرتهما على الإبصار ليرى ما يريد رؤيته، والشخص التّائه يسترشد بـ(السؤال) أو (البوصلة) أو (الخارطة) ليهتدي إلى الطريق الذي ضيّعه..
(القرآن) الدليل المُرشد.. والبوصلة التي لا تُخطئ.. والخارطة التي تُحدِّد الإتِّجاه.. والهادي الذي يوصل إلى الغاية.
(القرآن): (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).. والأقوم: الأعدل والأفضل، والأصلح، والأسلم، والأكمل..
و(القرآن) يهدي لطريق (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) (الزمر/ 28): مستقيم، لا عثار فيه، ولا مطبّات، ولا مزالق، ولا ألغام.. نعم، فيها أشواك، لكنّ أشواكه كوخز أبر النحل لابدّ للوصول إلى الشهد (العسل) منها.
و(القرآن): (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة/ 16). وسُبُل السلام: كلّ طريق فيها (أمان) و(سعادة) و(توفيق) و(مصلحة) و(عمران) و(استقامة).
إنّ نور القرآن هو الذي يهدينا إلى الصراط المستقيم، فنرى الأشياء واضحة من خلاله.
- القرآن بيِّنات:
(أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).
(بيِّنات).. أكثرُ من (بيِّنة).. والبيِّنة (الشاهد) و(المَعْلَم) و(الشاخص).. و(اللافتة) و(المنار) و(الفنار)..
كيف أضيعُ في زحام الدّرب.. وأتخبّط في العمى والمعمّيات، وهذا الحشدُ من البيِّنات حولي ومعي؟
كيف يلفّني الغموض.. وأيادي البيِّنات الواضحات تلوِّح لي، بل تأخذ بيدي إلى ساحة الهدى وميدان الرّجاء؟!
والقرآن (بيِّنات) وهي عكس الغامضات المبهمات، فالبيِّن هو الشيء الواضح الجلي، والوضوح لا يكون في ظلام، فحتّى يكون الشيء واضحاً لابدّ أن يكون في النور أو تحت النور، ولذلك كانت آيات القرآن كلّها بيِّنات، لأنّها مستنيرة بنوره، مضيئة لنا دروب الحياة.
- القرآن شِفاء:
والقرآن (شِفاء)، وهل تحتاج إلى الشِّفاء إلّا إذا كنتَ تعاني المرض؟
فالقرآن شِفاء لما في الصدور من غلٍّ وحقدٍ وحسدٍ وبغضاءٍ وتعالٍ وتحاملٍ وعصبيّةٍ وتجنٍّ، ولما في الحيات التي نحياها من غشٍّ وسرقةٍ وزناً ورباً وعدوان وشرور أخرى. وبذلك ففي القرآن صحّتنا وعافيتنا وسلامتنا الفردية والإجتماعية: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس/ 57).
شفاءٌ لـ(المرضى) حتى يلبسوا ثوبَ العافية من جديد، ومزيد من الشِّفاء لـ(الأصحّاء) حتى يحافظوا على نعمة السلامة، وتاج العافية.
و(الشِّفاء) غير (الدّواء).. إنّه النتيجة المرجوّة بعد تناول الدّواء..
في (القرآن).. في مصحّته.. في مشفاه.. في عيادته الشِّفاء الأكبر من الدّاء الأكبر: (الكفر) و(الشِّرك) و(النِّفاق) و(الغَيّ) و(الضلال).
- القرآن رحمة:
والقرآن (رحمة)، فهو باب واسع ندخله إذا اُغلِقَت بوجوهنا الأبواب، وظلّ ظليل نلتجئ إليه إذا لفحنا الهجير.. وحنان غامر إذا ضاقت بنا الصدور والنفوس، فالرحمة هي ألطافٌ ظاهرةً وخفيّة، ونِعَمٌ باطنة وظاهرة: (قَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) (الأنعام/ 157).
(رحمة).. لأنّه لولاه كنّا إذا ضعنا بقينا ضائعين، يُسلِّمنا (تيه) موحش إلى تيه أكثر وحشة.. وتتقاذفنا (ظلمة) قاسية إلى أعماق ظلمة أقسى وأشدّ رهبة..
و(رحمة).. لأنّنا إذا مرضت قلوبنا وأصيبت نفوسنا بالعطب وحياتنا بالفساد، وجدنا مَن شيافينا ويعافينا من البلاء المحدق فينا.
(رحمة).. لأنّ الله تلطّف وكلّمنا وخاطبنا به.
(رحمة).. لأنّه فيض من معرفة من لدن العالم بكلِّ شيء.
ورحمة.. لأنّه منهاج حياة كامل وشامل وعمليّ وفاعل.
ورحمة.. لأنّه (عقل) كبير يُضاف إلى عقولنا، حتى نرى به ما لا تطاله عقولنا لوحدها.
رحمة.. لأنّه نزيه من النقائص.. والنقائض والإختلافات.
ورحمة.. لأنّه (المَخْرَج) من أزمتنا.. وقيودنا.. ومشاكلنا، وابتلاءاتنا، وأنفاقنا المُظلمة.
- القرآن تثبيت:
والقرآن (تثبيت)، فالتحدِّيات العاتية، والصعوبات الجمّة، والنكبات الفظيعة، والعنت الشديد، والإظطهاد المرير، والزلازل الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والنفسية التي نتعرّض لها، تحتاج إلى مصل التماسك حتى لا يتصدّع كياننا أو ينهار: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) (الفرقان/ 32).
إذا اهتزّت الأرضُ تحت أقدامك.. إذا دارت بك الأرض.. تحتاج إلى شيء تُمسِك به حتى لا تسقط.. وإذا أُصِبْتَ بدوار يلفُّ رأسك، احتجتَ إلى أن تستنده إلى حائط، أو تضعه على وسادة، أو إلى أقراص مهدِّئة حتى يثبت في مكانه..
وإذا مشيتَ على سلك، أو حبل، كان لابدّ لكَ من عصاً تُمسِك بها لتثبت وتتوازن وإلا هويتَ وتحطّمت..
وإذا أدخل أحدهم أو جماعة الرعب في قلبك من خطرٍ محدق، فإنّك تبحث عمّا يمنحك الثبات في أجواء الرعب القلقة والمُقلقة.. تسأل عن (الملجأ).. وتبحث عن (الملاذ)..
وإذا تساقط الناسُ من حولك في شِراك المفاسد والمباذل والمنكرات والشهوات، وتلفّتَّ فلم تجد إلّا القليل ممّن رحم ربّك، تتساءل عمّا يُبِّت لك فؤادك وقدمك..
إنّ البناء إذا لم تكن له أعمدة تُمسِكه، تهاوى..
(القرآن) يوفِّر لك الأعمدة الواقية من الإهتزاز والسقوط..
إنّه (الدّعامة) الكُبرى التي بدونها تتزلزل الأرض، وتزلّ الأقدام.
- القرآن ذِكْر:
والقرآن (ذِكر)، والذِّكر يُقابِل الغفلة.. والغفلة شرود وسهو ولهو وانصراف عن منابع النور والرحمة والهداية، أمّا الذِّكر فهو أشبه شيء بإرجاع السيارة التي تخرج عن الطريق إلى الطريق، فإذا غفل عنها السائق، قادته إلى المخاطر التي قد تودي بحياته.
فالذِّكر هو يقظةُ العقل وصحوةُ القلب وانتباهةُ الرّوح، أي أنّ القرآن يُذكِّرنا دائماً أنّ هناك ربّاً يرعى، ويرحم، ويُشاهِد، ويُسدِّد، ويُؤيِّد، ويُثيب ويُعاقب، ويأخذ بأيدينا إلى سبل السلام والخير والسعادة: (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (ص/ 87).
تنسى فتحتاج إلى مَن يُذكِّرك.. وتستغرق فتبحث عمّن يعيدك إلى وعيك.. وتنام فتطلب مَن يعيدك إلى يقظتك، فتتوسّل بالساعة والمُنبِّه، وتارةً بشخصٍ دأب على الإستيقاظ في أوقات محدّدة، ومرّة تدوِّن في مفكّرتك، ومرّة تحدث حوادث مشابهة لحوادث قديمة، فيرنّ الجرسُ في وجدانك ووعيك مُذكِّراً أو مُنبِّهاً ومُوقظاً.
(القرآن) جرسٌ أكبر.. مُنبِّه أعظم.. مُفكِّرة أوسع وأشمل..
إنّه علاج شافٍ من (الغفلة) مرض العصر الذي يزداد المصابون به كلّما ابتعدنا عن الله تعالى.
- القرآن ذِكْرى:
والقرآن (ذِكرى)، والذِّكرى عكس النسيان، فكثيراً ما ننسى أو يُنسينا الشيطانُ، ربّنا، وديننا، ومسؤوليّتنا، والغاية من خلقنا، وتعاليم دستورنا، فتأتي آياتُ القرآن الكريم لتذكِّرنا ذلك كلّه: (هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) (غافر/ 54).
إنّك إذا انقطعت عن صديق عزيز، فلا تتّصل به هاتفياً، ولا تراسله بريديّاً، ولا تسترجع ذكريات معه، فإنّه شيئاً فشيئاً سوف يخرج من ذاكرتك وربّما من حياتك أيضاً، وكذلك القرآن، فهو ذكرى للذاكرين، وإلّا انفصل عن حياتهم وانفصلوا عنه.
- القرآن موعظة:
والقرآن (موعظة)، بل هو أحسن المواعظ على الإطلاق، فلا يجد باحث عن الموعظة البليغة أبلغ منه.. يعظنا في الأمم التي سلفت.. وفي الموت الذي سنتجرّع كأسه كلّنا بلا استثناء، وفي الدنيا التي هي متاع قليل، ودار لهو وغرور: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 138).
مواعظُ القرآن ليست باردة، أو خالية من الروح.. هي مواعظ تتفاعل مع الحياة.. تجمع بين متطلّبات الإنسان وبين الحكمة في تلبيتها، وبين (المَثَل) وبين (تطبيقاته) وبين الموقف التأريخي الذي ماتَ أصحابه، لكنّه بقيَ حيّاً نابضاً كالأنهار الكُبرى التي تروي الأجيال ولا تموت بموتهم..
آيات القرآن.. أنهار خالدة..
يعظني القرآن فيقولُ لي: إنّ الذين (فعلوا) أناسٌ مثلك، وإنّ الذين (تركوا) بشرٌ مثلك، والذين صبروا وتحمّلوا وفازوا، نظراؤك من الآدميين لا يختلفون عنك..
(القرآن).. الموعظة البليغةُ التي تقود إلى (الكمال).
- القرآن.. تبيان لكلِّ شيء:
والقرآن (تبيان لكلِّ شيء)، أي الجامع لكلّ شيء، المانع من الحاجة إلى غيره، فهو النبع الذي يردّه كلّ عطاشى العلم والأخلاق والمعرفة.. فيه القضايا الأساسية وأُمّهات المسائل الكُبرى، ولو لم يكن كافياً لاحتجنا إلى كتابٍ آخر: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل/ 89).
هذه (الكُلِّيّة) – كلّ شيء – موحية.. أي لكلِّ شيء تحتاجه من أساسيّاتك أيّها الإنسان، فلماذا الذِّهاب إلى (البِركة) و(البُحيرة) و(النهر الصغير) طالما أنّ (البحر) بين يديك؟
كلُّ شيءٍ لإنسانٍ كان يركب الدّابّة.. وكلُّ شيءٍ لإنسانٍ يتنقّل بين القارّات بشتّى وسائط النقل السريعة.
(القرآن) مائدةٌ عامرةٌ بكلّ ما لذّ وطاب حتى لا يسأل صاحبها أو المجتمعون حولها عن شيءٍ مُفتَقَد، فيقولون: أينهُ؟ ألا ينقصنا إلّا كذا.
- القرآن تصريفٌ للأمثال:
والقرآن (تصريف للأمثال).. والمثل حالة شبيهة بحالةٍ أخرى، ويُضرب للإعتبار وأخذ الدرس، فكما عاشَ الأوائل تجاربهم في ضوء ما أراد الله منهم وابتعدوا عمّا نهاهم عنه، فإنّ لنا في تلك التجارب دروساً وعبراً، وهذا هو السبب الذي يجعل القرآن يسرد علينا قصص الماضين، ويدعونا إلى التأمّل في آثارهم ومآلهم: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) (الكهف/ 54).
تصريف يعني تسخير.. كتصريف السحاب والرِّياح.. والصيرفي هو الذي يتعامل بالأموال والنقود..
أمثلة القرآن.. دروسه.. عِبَرهُ.. مسخّرة لك لتستفيد منها كما تستفيد ممّا تحمله الرِّيح أو يقلّه السحاب من بركات..
وأمثلة القرآن.. مواعظه.. عُملة نادرة وثروة طائلة.. وأنتَ الصيرفي، الذي يُفترَض أن يُحسِن التعامل بما بين يديه من كلِّ العُملات.
- القرآن فُرقان:
والقرآن (فُرقان)، أي معيار نميِّز به الحق من الباطل، والخير من الشرّ، والعدل من الظلم، والشّقاء من السعادة، والعلم من الجهل، والقوّة من الضعف، والصدق من الكذب، والنّجاة من الهلاك: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان/ 1).
مشكلةُ الكثير من الناس، ليس اليوم ولا في هذا العصر فقط، بل في كلِّ زمان، هي مشكلة (المعايير) و(الموازين) و(المساطر) و(الباروميترات).. ولذلك تختلط عليهم الأمور وتشتبه، فيتساقطون ضحايا التمويه والتغرير والخداع والدّهاء والتلاعب والإستغفال.
(القرآن).. يُفرٌِّ ويُميِّز ويُفصِّل فيُسمِّي كلّ شيءٍ باسمه.. الأبيض أبيض والأسود أسود.. ومشكلة (عمى الألوان) هي في (النّاظر) وليست في الأشياء (المنظورة).
يقول (المتنبِّي):
أُعِيْدها نَظَراتٍ مِنكَ صادقةً **** أن تحسبَ الشَحمَ فيمَن شحمهُ وَرَمُ
إنّ تلميذ القرآن علي بن أبي طالب (ع)، الذي يقول: "وإنّ معي لبصيرتي لا لُبِّستُ (بشكٍّ داخليّ) ولا التُبِسَ عليَّ (بدعوى خارجيّة)"، قد تعلّم هذا (الفرقان) من هذا (القرآن)، ومن الحامل الأوّل له أستاذه ومعلِّمه رسول الله (ص)، فكان الحقّ عنده يُعرَف ويُقاس من خلال كونه الإصابة المباشرة في (نقطة الهدف) وما عداه فسهام طائشة.
(القرآن).. نقطة الهدف.
(القرآن) المعيار الذي تُصحّح به المعايير الأخرى، فما وافقَ معاييره معيار حقيقي، وما خالف موازينه معيار زائف.
ولو لم يفرِّق القرآن بين النور وبين الظلام لالتبست علينا الأمور، فربّما كنّا نرى النور ظلمة والظلمة نوراً، كما هو شأن الكثيرين من الناس.
- القرآن بُشرى:
وهو فوق هذا وذاك (بُشرى) للمسلمين.. وللمؤمنين بما وعدهم الله وأعدّ لهم من ثوابٍ عظيم ونعيم مقيم: (وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89).
كم تنتظر البُشرى بفارغ الصبر..
بُشرى نجاحك في الامتحانات النهائيّة.. وبُشرى حصولك على عمل مرموق.. وبُشرى حصولك على الجائزة.. وبُشرى العفو عنك.. وبُشرى قبولك في منصبٍ أو مهمّةٍ تقدّمتَ إليها..
إنّ البشير هو الذي ألقى القميص على عيني يعقوب (ع) فردّ له بصره، وهي أخت موسى (ع) التي جاءت إلى أمّة لتزف إليه بُشرى سلامته، فملأت قلبها الفارغ برداً وسلاماً..
(القرآن) بشيرك بالبشائر الكُبرى وبالبشائر السعيدة التي تمتدّ إلى حياتك الأخرى (الخالدة)..
إنّ البشير الصادق.. كلّ وعوده صدق.. وكلّ بشائره حقائق.
هذه هي بعض خصائص القرآن، تعرّفنا عليها من خلال القرآن نفسه، فماذا نستفيد من هذه الخصائص والأوصاف؟
1- كلّ صفة من صفات الكتاب الكريم عامل من عوامل الجذب والإغراء والتشجيع على الدخول إلى عالم القرآن، بل عوالمه الكثيرة والمنيرة، ومعرفة ماذا هناك؟!
2- إنّ تنوّع وتعدّد صفات القرآن وأسمائه إشارة إلى أنّ جمالات وكمالات القرآن كثيرة، فهو ليس شفاء وحده، ولا رحمة وحدها، بل هو كلّ ما وصف به نفسه، ممّا يستدعي اغتنام واستثمار فوائده كلّها.
3- إنّ علاقة المسلمين الطويلة مع كتابهم الأوّل (القرآن) أثبتت أنّ كلّ صفة من هذه الصِّفات مؤكّدة وموثّقة بآلاف بل ملايين التجارب الفردية والإجتماعية، وحينما يتأكّد شيء ويتعمّق بالتجربة فذلك أكبر برهان على صدقه. وبإمكاننا نحن أيضاً أن نجرِّب ذلك بأنفسنا من خلال بناء علاقة حميمة مع القرآن.