فقه الزكاة ..د. عائض القرني
لما أوجب الإسلام على أهل الأموال الزكاة في أموالهم وحبب لهم الصدقة نافلة جعلها طهرة لقلوبهم من الشح وطهرة لأموالهم من الآفات، وهي نماء يبارك الله بسببها في المال، كما قال تعالى:
(يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ)
والزكاة في الإسلام منفعة للفقير وصلاح للغني وتواصل بين المسلمين وقوام للمجتمع الصالح، وليست مكلفة لصاحب المال، فإنها تعادل 2.5% ولكن منافعها العامة والخاصة تفوق الوصف حتى إني قرأت لبعض أهل الاقتصاد من العالم الغربي أنه نادى بتخصيص 2% من أموال الأغنياء للطبقة الفقيرة، وقد سبقهم الإسلام إلى ذلك بقرون.
ولو تحققت الزكاة في المجتمع على الوجه الشرعي لما بقي في المسلمين فقير، والمقصود أن فرض الزكاة رحمة وبركة وخير عميم وأجر عظيم حتى ذكر الله سبحانه الصدقة في صورة من أجمل الصور وأبهاها وأجلّها فقال تعالى:
(مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مائةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
فالزكاة صلاح للحال ونماء للمال ومثوبة من ذي الجلال، وطهرة من البخل حتى إنك لتجد أن نفس المنفق الصادق قد سعدت بالإنفاق أكثر من سعادة الفقير الذي أُعطِي هذه الزكاة كما قال الشاعر:
تراه ـ إذا ما جـئتَهُ ـ متهللا كأنك تعطيه الذي أنت سائله ومن عرف مردود الصدقة على النفس جاهد نفسه في الإنفاق وعودها البذل والعطاء حتى إن كثيرا من علماء النفس يعالجون مرضاهم بالصدقة. وقد قال المعصوم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم:
«داووا مرضاكم بالصدقة»،
والصدقة تكفير للسيئات وغفران للخطايا، يقول صلى الله عليه وسلم:
«الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار»،
وذكر لنا صلى الله عليه وسلم قصة المرأة البغي التي سقت كلبا فغفر الله لها.
والزكاة في الإسلام مدرسة من التراحم والتآلف والشفقة والعطف فيسعد بها معطيها وآخذها؛ فمعطيها يرى أنه امتثل أمر الله واقتدى برسوله صلى الله عليه وسلم وواسى إخوانه وانتصر على نفسه وشرح بها صدره وأزال بها همه وغمه ونمّى بها ماله، والآخذ يشعر برحمة الغني وبتواصل المجتمع وبتآلف المسلمين فيحب أهل الخير ويدعو لهم ويذهب من قلبه الحسد لهم والحقد عليهم.
وهذه من أعظم مقاصد فرض الزكاة في الإسلام؛ فلم يترك الغني يلعب في ماله وحوله بطون جائعة وأجسام عارية وأقدام حافية وأكباد عطشى وأيضا لم يترك الفقير يتلوى من الجوع ويتلمظ من الظمأ ويزورّ من حرارة الحاجة بل قيل له: حاجتك مقضية وقُوتك مؤمّن وإسعافك واجب على إخوانك كما قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
وفي الإسلام لا منّة للغني على الفقير بزكاة بل يرى الغني أنه أدى الحق الذي عليه وقام بالفريضة الواجبة وامتثل أمر الله وليس في ذلك علو ولا كبر بل عبودية وأجر، فالزكاة والصدقة دواء لقلوب الأغنياء والفقراء، فقلوب الأغنياء يذهب منها الكبر والشح والبخل، وقلوب الفقراء يذهب منها الحسد والحقد والبغضاء، فهي طهارة للمعطي والآخذ وهي بركة على الأغنياء والفقراء، وهي على القريب صدقة وصلة، بل إن الزكاة يتألف بها غير المسلم إذا كان في ذلك مصلحة من تحبيبه في الإسلام وترغيبه في الإيمان وكسر شوكته وكف أذاه؛ فإن الإحسان يستعبد الإنسان.
وتجد من حكمة الإسلام في الزكاة ما يفوق الوصف؛ فإنها مفروضة في المال بشروط كوقت الحصاد في الثمار وبلوغ النصاب وحلول الحول في الأموال، وعدم الإضرار بالأغنياء؛ فليست الزكاة بنسبة باهظة شاقة عليهم، وليست على أموال لم تبلغ النصاب الشرعي فيقع الضرر في رأس المال، وليست في أموال لا يجري فيها البيع والشراء والتجارة. ولهذا لم تفرض الزكاة في ما أعد للاقتناء بل في ما أعد للبيع، ولهذا فلا زكاة في الحلي الملبوسة للمرأة؛ لأنها لا تعد للبيع، وكذلك البيوت المسكونة والسيارات المستعملة، فسبحان من فرض فأحكم ومن أحسن في شرعه وأبدع في صنعه جل في علاه