ســوار الدمــع......
وصل أخيراً بسيارته أسفل العمارة .... خرج من السيارة ... ممسكاً بيده حقيبته ... رحلة ليست بالقصيرة من قرية البدرمان بمحافظة المنيا الى بيته بمدينة نصر ... بحرص شديد يفتح الباب محاولاً تجنب صرير الباب .... يجدها امامه بوجهها الحنون المشفق ( الحمد لله على السلامة حبيبي ).... مقبلاً يدها ( ايه اللي مصحيكي يا أمي احنا قربنا على الفجر ) تقبل رأسه قبل ان يرفعها عن كفها ( كنت عايز اطمن عليك معلش ياحبيبي ربنا يرحمه )( ربنا يرحمه ؟ رحمته مكتوبة في الكتاب يا امي ده شهيد ) ربتت على صدره بحنو ( أحضر لك تاكل ) ... ( لا ياأمي حاعمل شاي ) ادخل ارتاح وانا حاجيبلك الشاي انا عاملة قراقيش من اللي بتحبها ) .....
دخل حجرته ترك الحقيبة خلع عنه سترته وجلس على الطاولة ... أخرج مسدسه من القراب ... وأخذ يفككه ويضع القطع أمامه ... دخلت أمه بالشاي وطبق مما اعدت .... وتركته منفرداً كما يحب .... أخرج من الحقيبة علبة استخرج منها فرشاة صغيرة وقطعة قماش وانهمك في تنظيف سلاحه .... وهو يشرب الشاي .... ظل منهمك فيما يفعل حتى تنبه لاذان الفجر .... قام للوضوء ... صلي ركعتي السنة ... ثم ركعتي الفجر ... وجلس في مصلاه يذكر الله ... يسبحه تارة وتارة يحمده ... وتارة يستغفره .... واخرى يذكره باسمه المفرد في تتابع ... الله ... الله ...الله .... يخرج بها من كل الوجود حتى تتحد كل ذراته مع نغم الذكر ... يتوحد معه ... وظل على حاله قرابة الساعة ... ثم انهمك في الدعاء ... وقام من مصلاه كانت الساعة السادسة ... ضبط منبه الوقت على الثامنة ... وألقى بجسده المتعب على الفراش .
بعد ساعتين الا ثوانٍ معدودة فتح عينيه في انضباط غريب وظل ينظر الى منبه الوقت ومع اول دقة أغلقه ... عادته منذ التحق بكلية الشرطة دائما يتفوق على منبه الوقت في الاستيقاظ بفارق ثواني .. هب من فراشه توضئ وصلي ركعتين ... ما ان سلم حتى دخلت أمه بكوب الشاي والفطور الذي لم يختلف كثيراً عن العشاء ... سألته ( حاترجع بعد التشريفة ) ( لا يا أمي حاسافر علطول ) ( ربنا معاك يابني ) اعتادت على تلك الحياة ... وقف أمام خزانة الملابس وضع يده على زي التشريفة .... ثم رفعها .... توجه للحقيبة اخرج زي العمليات ... ارتدي فوقه الواقي .... استكمل تسليحه كمن يخرج لمهمة ... نظر في المرآة برضا محدثاً نفسه هكذا كان يحب أن يراني ويرى نفسه .... أعد حقيبته ودع أمه وخرج ركب السيارة وتوجه لمسجد الشرطة القريب حيث مراسم جنازة الشهيد نبيل ....
وقف في الجنازة بعد انتهاء الصلاة .... لاحظت عيناه زوجة نبيل الشابة .... تخيل بجوارها زي شرطي بكامل رونقه ولكن للاسف لايطل منه وجه نبيل بل مجرد شماعة ملابس .... تبلورت دمعة في عينيه ... صدها جفنه فتدحرجت الى أقصى عينيه ... وكأن الجفن يأبى لها الانهمار .... وكأنها تطاوعه وتنحبس مكونة بلورة تزين هذا السد المسمى جفن .... يمر الجثمان الزكي موشح بعلم مصر ... فلايري في اللون الاحمر سوى اسم نبيل وكل من سبقه من شهداء العزة .... ويري في الجانب الاسود قلوب الارهاب والغدر ... ثم ينظر للون الابيض فيرى وطناً أمناً يطالبه بدوام الامن ... تتبلور دمعة أخرى لؤلؤة تصطف بجوار سابقتها .... يسرح بخياله محدثاً نفسه مؤكد انها عملية قنص فليس نبيل من يقتل في مواجهة مباشرة ... تأخذه الذكرى لاقدامه وترتيبه على دفعته وتفوقه في كل الفرق الخاصة التي خاضوها معاً والجميع منبهر بأداء نبيل تصطف دمعة أخري تقف شامخة على سد الجفن .... يتذكر كل المهام التي قاموا بها معاً أول مرة يفترقا في مهمة ... دمعة أخري تصطف ... تميزهم هو من فرقهم .... ذهب نبيل ليقود أحد الفرق المشتركة في مداهمة جبل الحلال .... وذهب هو ليقود فرقته في قرية البدرمان ..... ينبهه صوت الطلقات النارية تحية لنبيل ... مع كل طلقة تطلق تصطف دمعة ... حتى صار جفنه كأنه يتحلى بسوار من الدمع ... محرم على دمعاته الخضوع أو الانهمار ... هكذا هي دموع الرجال من هذا المصنع !!! دموع لاتسقط .... مع الطلقة الاخيرة شيع نبيل بنظرة أخيرة وتوارى قبل أن يستوقفه أحد ... انطلق الى سيارته ... متوكلا على الله الى البدرمان ... فهناك مهمة تستكمل ... هناك وطن يؤمن ... هناك أبرياء ينتظرون .... هناك قسم أقسمه ,هناك امنية اللحاق بكل نبيل ....
محمود التركى