نادى الله تعالى بني الإنسان كلهم، من المؤمنين وغيرهم، ليذكرهم بأصولهم وأساس خلقهم، فهم من أصل واحد، وفي الخلقة سواء، بنو آدم وحواء؛ إذ ليس شعبٌ أفضل بجنسه من شعب، ولا قبيلة أكرم بأصلها من قبيلة، وإنما كان هذا التقسيم والتفريع ليتعارفوا ويتآلفوا، وتجتمع قلوبهم، وتقترب أفئدتهم، وتزول من أوساطهم عوامل الفرقة والشتات والتمزق والانقسام، وتسود روح المودة والوئام والألفة والانسجام.
ثم إن الخصلة التي يمكن أن يتميز بِها الإنسان ويرتفع على غيره ويسمو وينال الفوز والكرامة من الله تعالى إنما هي الصلاح والتقوى والخوف والخشية منه جل وعز ومعرفته حق المعرفة وعبادته كما أراد، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
يقول : ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)) رواه أبو داود.
والسعادة والهناء والحياة الطيبة ضمنها الله تعالى لكل من خافه واتقاه، وداوم على طاعته ورجاه، واجتهد طالبًا مغفرته ورضاه، قال جل في علاه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97>.
فالعمل إذًا والحرص على العبادة والاجتهاد فيها هو الذي يظهر ويبرز، وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:39-41>، فالله تعالى ينظر إلى الجميع بأفعالهم، ولا موقع للمناظر والتفاخر والتسابق في زخارف الدنيا وزينتها، قال : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم.
فالإسلام يمقت كل نظرة يكون أساسها النسب والدم واللون، وإثارة ذلك دعوة للعصبية وإحياء لها، وعودة إلى ما كان عليه الناس في الجاهلية، ووسيلة لتفريق الكلمة، وتمزيق وحدة المجتمع المسلم الذي تربطه علاقة الإسلام والإيمان، التي هي أقوى من كل رابطة، وأوثق من أي علاقة أخرى، قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:26>، وقال : ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم))، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله عز وجل: المسلمين، المؤمنين، عباد الله عز وجل)) رواه أحمد.
ولما ثار اليهود في المدينة، وأشعلوا الخلاف بين الأوس والخزرج، ودسُّوا بينهم شابًا يهوديًا ذكَّرهم بمعركة بعاث التي حدثت بينهم، وذكَّرهم بأحقادهم وعداواتهم القديمة، فاستثاروهم، وقام شاب من الخزرج وسَلَّ سيفَه، وقام آخر من الأوس، فتواعدوا خارج المدينة، وتَهيؤوا للقتال، فسمع رسول الله بخبرهم، فخرج من بيته وهو يقول: ((حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو ربُّ العرش العظيم))، ويقال: إنه خرج حافيًا بلا نعلين، حتى وقف بين الصفين، وقال بأعلى صوته : ((يا معشر المسلمين، الله، الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّفَ بين قلوبكم؟!)) رواه الطبري. فلما سمع الصحابة ذلك عرفوا أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، وأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100>، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: كيف تقتتلون؟! وكيف تتناحرون؟! وكيف تتباغضون؟! وكيف تتقاطعون؟! وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101>.
لقد اهتمَّ الدينُ الإسلامي بكل ما من شأنه توثيق العلاقة بين المسلمين، وتقوية الصلة بينهم، والبعد عن كل ما يؤدّي إلى الفرقة والشتات والنفرة والتباغض، وحارب العنصرية بكافة أشكالها وطرقها، وأبطل العصبية بشتى صورها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ: يغضب لعَصَبَةٍ أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبةً فقُتِل فقتلة جاهلية)) رواه مسلم، وعن جبير بن مطعم أن رسول الله قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) رواه أبو داود، وروى المروزي بإسناده عن حذيفة قال: قال رسول الله : ((لن تفنى أمتي حتى يظهر فيها التمايز والتمايل والمعامع))، قيل: يا رسول الله، ما التمايز؟ قال: ((عصبية يحدثها الناس بعدي في الإسلام))، قيل: فما التمايل؟ قال: ((تميل القبيلة على القبيلة فتستحلّ حرمتها))، قيل: فما المعامع؟ قال: ((سير الأمصار بعضها إلى بعض، تختلف أعناقها في الحرب)).
إن الأخوَّةَ بين أفراد المجتمع المسلم ـ قبائل وشعوبًا وجماعات ـ يجب أن تكون قائمة على الأركان والثوابت التي أسس عليها المصطفى المجتمع الإسلامي، وينبغي لها أن تكون كذلك وتستمر عليه، مجتمع كالجسد الواحد، يتآلف ويتعاون ويترابط، يظهر فيه الإيثار والمحبة، وتسوده المودة والألفة والعفو عن الزلات والصفح عن الأخطاء والهفوات وحسن الظن، ويزول منه الحسد والقطيعة والشحناء والضغينة والاحتقار والسخرية والبغضاء والخديعة، وتختفي منه الأنانية وحب الذات، وينبغي أن تكون تلك المعاني ظاهرة في التعامل بين جميع المسلمين، يلتزم بِها الكافة قولاً وفعلاً وسلوكًا وتعاملاً، فمن وجد في نفسه شيئًا من التعالي والزهو، أو أحسّ باحتقار أو انتقاص لأي من إخوانه المسلمين بنظرته للجنس أو البلد أو اللون أو العرق أو المال أو الجاه فليراجع نفسه، وليتفقد إيمانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37>.
الصداقة الملونه
ما أجمل صورة المجتمع المسلم حين يستمرّ على تلك الثوابت، ويعمل بتلك الأسس والقواعد، حيث يبقى مجتمعًا قويًا متماسكًا، تسود أفراده روح المودة والسماحة، في انسجام تام، وتآلف فريد، لا تؤثر فيه الرياح العاتية، ولا المؤثرات الوافدة.
غير أن المجتمع إذا تخلّى عن شيء من تلك الأسس، ونأى بنفسه عن التوجيهات النبوية التي تحثّه على التحلي بأدب الأخوة الإسلامية، وتدعوه إلى الأخذ بالأسباب الجالبة للترابط والألفة سرت بين أفراده القطيعة، وحُرم من التواصل والتعاطف.
إن منهج الإسلام في تربية أفراده قائم على المحبة والتقارب، والبعد عن كلّ ما يكدر ذلك أو يكون سببًا في الجفوة والشحناء والتباعد والبغضاء.
والمسلم ينبغي أن يكون قريبًا من إخوانه، عطوفًا ودودًا، يصلهم ويحسن إليهم، يُظهر محاسنهم ويبرز فضائلهم، يخفي عيوبهم ويصفح عن سيئهم، يتحمل أذاهم ويعفو عن زلاتِهم، يقول : ((وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) متفق عليه.
قال أبو حاتم رحمه الله: "الواجب على العاقل أن يعلم أن الغرض من المؤاخاة التي يجب على المرء لزومها مشي القصد ـ أي: الوسط ـ الذي وصف الله به عباده بقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63>، ومنها: خفض الصوت، وقلة الإعجاب، ولزوم التواضع، وترك الخلاف".
والعاقل هو من يداري إخوانه ويصدق معهم، ويكون وفيًا لهم؛ لأنه لا خير في الصداقة إلا مع الوفاء، وأما الأُخوَّة الزائفة التي تطفو على السطح، وهي براقة في الظاهر، جوفاء من الداخل، فلا خير فيها؛ لأن المرء إذا احتاج إليها ووصل عندها لم يجدها شيئًا، فهي كالسراب يحسبه الظمآن ماء.
ولقد أحسن من قال:
كـم من أخٍ لك لم يلـده أبوكـا وأخٍ أبوه أبوك قد يجفوكـا
صـافِ الكرامَ إذا أردتَ إخاءهم واعلم بأن أخا الحِفاظ أخوكا
كم إخوةٍ لــك لم يلدك أبوهـم وكـأنما آبـاؤهم ولدوكـا
لو كنت تحملهم على مكروهــة تخشى الهلاك بها لما خذلوكـا
وأقـارب لــو أبصروك معلقًـا بنياط قلبك، ثَمَّ ما نصروكـا
الناس ما استغنيتَ كنتَ أخًـا لهم وإذا افتقرتَ إليهم فضحوكا
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: وضع عمرُ للناس ثماني عشرة كلمة، كلها حِكَم، قال: (ما كافأتَ من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجَتْ من مسلم شرًا وأنت تَجِدُ لها في الخير محملاً، ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء الظن ولا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه، وعليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعُدة في البلاء، وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق، ولا تتعرض لما لا يعنيك، ولا تسأل عما لم يكن، فإن فيما كان شُغلاً عما لم يكن، ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يُحب لك نجاحها، ولا تصحبن الفاجر فتعلَّم فجوره، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله، وتَخَشَّع عند القول، وذل عند الطاعة، واعتصم عند المعصية، واستشر في أمرك الذين يخشون الله، فإن الله تعالى قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28>).
وهكذا فإن المسلم يجب أن يكون صافي الودّ، صادقًا مع إخوانه، واضحًا معهم، باطنه كظاهره، لا يوغر في صدره حقدًا عليهم، ولا يجد في نفسه كراهة لهم، حاله في غيبتهم كحاله معهم في حضرتهم، إن حضر أخاه في مجلس أثنى عليه بما يستحقه، وأكرم وفادته، ولا يكن كحال البعض، يظهر الود لأخيه، والصفاء والمحبة له، وبمجرد أن يتوارى عنه وينصرف من حضرته يبدأ بالكلام في عرضه، لا يترك وصفًا ذميمًا إلا ألصقه به، ولا صفة يكرهها إلا اتهمه بها، فهو متقلّب الحال، متلّون الوداد، إذا رآه رحَّب به، وإذا غاب عنه ذَّمه. قال محمد بن حازم رحمه الله:
وإن مـن الإخـوان إخوانُ كشرةٍ وإخوانُ "حياك الإلـه ومرحبـا"
وإخوانُ "كيف الحال والأهل كلهم؟" وذلـك لا يَسْـوَى نقيرًا مُتَرَّبـا
جـوادٌ إذا استغنيـت عنه بمالـه يقول: إلي القرض والقرض فاطلبا
فإن أنت حاولتَ الذي خلف ظهره وجدتَ الثريا منه في البعد أقربـا
فالعاقل لا يصادق المتلوّن، ولا يؤاخي المتقلّب، ولا يظهر من الود إلا مثل ما يضمر، ولا يضمر إلا فوق ما يظهر، فأين هم أهل هذه الصفات؟! لقد عزّوا في مثل هذا الزمان. وإنك لتعجب! بشاشة عند اللقاء، وابتسامة عند الملتقى، وترحيب حار عند المواجهة، وفسحة في المجلس، ولينٌ في الكلام، ولسان يقطرُ كلماتٍ أحلى من العسل، فإذا ما غبتَ عنه تحول ذلك كله إلى ضده.
إذا كان ود المرء ليس بزائـد على "مرحبًا" أو "كيف أنت وحالكا"
ولم يكُ إلا كـاشرًا أو محدثًا فـأفٍ لـوُدٍ ليـس إلا كـذلكـا
لسانك معسول ونفسك بشةٌ وعند الثريـا من صديـقك مالكـا
وأنت إذا همت يميـنك مرة لتفعـل خيـرًا قاتـلتهـا شمالكـا
لقد حذر رسول الله من هذا التلوّن، وبيَّن أن ذلك من صفات الأشرار وأخلاقهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: ((ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار))، وفي لفظ: ((من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)) رواه ابن حبان في صحيحه. فالله تعالى يخلقه على أبشع صورة وأقبح هيئة؛ لأنه كان متملقًا في حياته، متلوّنًا في مقابلاته.
اللهم اجعل صدورنا سليمة، ونفوسنا كريمة، ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.