نوع من الفتور والتثاقل يعتري الفرد فيحول دون قيامه بما يجب أن يقوم به، أو يجعله يقوم بالعمل ببطء مصحوب بالضيق وخمود الحماس، إنه نمط من التقاعس والخمول وفقدان الرغبة في العمل وإيثار الراحة، إيثاراً يصل بالمرء حدّ العجز والإمعان في السلبية . ولك أن تتصور الكسل كتلة ثقيلة ذات جاذبية عالية، تشد الإنسان إلى الأرض، في الوقت الذي تدعوه مقتضيات الحياة إلى تغيير الوضع الآني والانطلاق وبذل الجهد . ورغم أن الكسل من أكثر الأشياء تأثيراً في حياة الناس لما يسببه من عزوف عن العمل، وتدنٍ في الإنتاج، وقلة في الإنجاز، وتفريط في أداء الواجب نحو الذات والآخر، رغم ذلك نجد أن البحث في أمره قليل، ودراسته والحديث في شأنه والكتابة في مجاله نادرة، فكأنما هو حقيقة سلبية تتغلغل في حياتنا ولحظاتنا إلى درجة تجعلنا نكسل حتى عن التفكير في الكسل !
أعتقد أن للكسل أنواعاً ثلاثة :
· كسل ذهني، · وكسل نفسي، · وكسل جسدي . وأعني بالكسل الذهني تدني الرغبة بالتفكير والتثاقل عن البحث والتحليل، مما يؤدي إلى قبول الأفكار الجاهزة، والاقتناع بالتفسيرات والتصورات المتوارثة، والبحث عـن الحلول التقليدية، دونما محاكمة أو نقد، بل يؤدي إلى رفض الفكرة الجديدة لمجرد مناقضتها للمألوف المستقر قبل إمعان النظر فيها لأن التمعّن والتفكّر يستهلكان جهداً وطاقة . وربما كان هذا النمط من الكسل من الأسباب الرئيسة التي تجعل السواد الأعظم من البشرية عبر تاريخها الطويل تتوارث الأفكار، وتقبل الخرافة، وتقتبس الحلول، حيث أن المبدعين من مفكرين وفلاسفة وباحثين ومخترعين ومكتشفين هم الندرة دائماً والاستثناء غالباً . وربما كان هذا الكسل الذهني أيضاً من الأسباب التي تجعل الإنسان لا يستخدم إلا جزءاً يسيراً من إمكانات الدماغ وقدراته، وفقاً لما يكرره ويؤكده لنا العلماء باستمرار .
أما الكسل النفسي، فإنك تجده في فقدان الرغبة في القيام بعمل، وفتور الهمة، وتدني نسبة الحماس، والميل الداخلي إلى السلبية والخمول في مواجهة متطلبات الحياة وضرورات العيش ومقتضيات التكيّف، وقد يرتبط هذا النوع من الكسل بجوانب كثيرة، فهو مثلاً من أعراض مرض الكآبة في بعض صوره أو أشكاله أو مراحله، وهو كذلك من أعراض تعدد الضغوط النفسية والتوتر الداخلي، وفي أحيان أخرى من أعراض القيام بالأعمال التي لا نُحبُّ أداءها أو التي لم نعتَدْ على أن نقوم بها . وقد يكون الكسل النفسي كذلك احتجاجاً من المرء على ما يسود حياته من فوضى وتراكم وتشتت، بل وأذكر أني قرأت في بعض المراجع أن كسل الموظف في أداء عمله نمط من العدوان اللاشعوري الموجه نحو سلطة الإدارة التي تقمعه
! ويرتبط الكسل النفسي بعلاقة تبادلية مع السأم، فكل منهما يقود بشكل ما إلى الآخر، أي أن كلاً من الكسل والسأم يمكن أن يكون سبباً للآخر أو نتيجة له، فالسأم كما عرّفَهَ الروائي (البرتو مورافيا) هو (فقدان العلاقة بالأشياء)، ولا شك أن من يعيش هذا الشعور من انقطاع الصلة النفسية الداخلية بأشياء الحياة وموضوعاتها وأحيائها سيكون فاتراً، لا يُقبِلُ على شيء، ولا يألو على شيء، إلا إن كان اقباله متثاقلاً خاملاً . وكذلك الحال فإن الكسل ذاته بما فيه من سلبية وسكون وخمود وعزوف عن الفعل الإيجابي والعمل، يؤدي لفقدان العلاقة واقعياً بالأشياء، مما يبعث على السأم كحالة نفسية .
أما الكسل الجسدي فقد قصدتُ به الكسل الناجم عن أسباب فسيولوجية، فبعض الأمراض، كما تُحدِّثنا الكتب الصحية والطبية المبسطة، تسبب الشعور بالإرهاق، وذلك كفقر الدم والسكر وتدني نشاط الغدة الدرقية وأمراض القلب والجهاز التنفسي وغيرها، ومن يعاني الإرهاق سيحُجم لا محالة عن كثير من النشاطات، وسوف يَتَحسَّبُ لكل سعرة حرارية سيبذلها من طاقته، وهذا يعني الكسل، لكنه ربما يكون كسلاً مبرراً أو مفسراً على الأقل، فالإرهاق ليس مجرد تعب، إذ التعب حالة طبيعية تنجم عن بذل مقدار من الجهد يزيد عن حد معين، ويزول التعب بعد الراحة، أما الإرهاق فقد يأتي بدون جهد أو لأقل جهد، ولا يزول بعد الراحة، ويمتد لفترات طويلة .
ولا ينجم الإرهاق عن الأمراض وحسب، فقد ينجم عن قلة النوم أو تقطّعه أو عدم عمقه، وكذلك ينجم عن بعض الأدوية كما في المهدئات وبعض أدوية الضغط وبعض أدوية الحساسية وما إلى ذلك .
في كل الأحوال يبدو أن أناساً يرثون طاقة نفسية وعصبية أكبر مـن التي يرثها سواهم، ويستطيعون تحمل بذل الجهد المتواصل لأوقات أطول، وهم أبعد عن الكسل عادة .
كما أن للمناخ فعله وأثره، فالطقس الحار يبعث على الكسل بكل أشكاله، أفلا ترى إلى سكان الدول الباردة والمعتدلة أنهم الأكثر إنتاجية عادة، وأن معظم الدول الغنية مرتفعة الدخل ذات التنمية البشريـة العالية مناخهاً غالباً بارد أو معتدل، وجميع الدول ذات التنمية البشرية المتدنية مناخها حار ؟
وربما أمكننا أن نضيف إلى هذا وذلك أن لطبيعة الثقافة بما فيها القيم والعادات السائدة في المجتمع، تأثير في تقليل الكسل أو زيادته، فالمجتمعات التي تميل إلى كثرة اللقاءات والمناسبات والجلسات المطولة والصالونات، يكون أفرادها أقرب عادة إلى الكسل من أفراد المجتمعات التي تقدّر الوقت والإنتاج وتُحفِّز الإنجاز
. وتبقى خلاصة القول أن الكسل بكل أشكاله، ومهما تعددت أسبابه وأعراضه، وتفاوتت تأثيراته من شخص لآخر، حقيقة قائمة واقعة في نفوسنا، متغلغلة في حياتنا، لها فعلها السلبي في حجم ونوع أعمالنا وإنجازاتنا وأداء التزاماتنا وتحقيق أهدافنا، وينبغي التعامل معه كحقيقة واقعة تحتاج إلى فهم، وتستلزم مقاومتها الإرادة والتحفيز، ويساعدنا في ذلك تحديد الأهداف والوسائل ومتابعة تحقيقها، والبحث الدائم عن المشاعر التي تبعث فينا الرغبة في الحياة والاستمرار والإيجابية والعطاء، مثل مشاعر الحب والانتماء للإنسانية وتحقيق الذات .