فإنها من تقوى القلوب
للحرم المكي في الإسلام مكانة عظيمة، وحرمة جليلة؛ لا يحيط بها وصف، ولا يلمّ بها بيان، ولا يطيقها بنان، إذ فيه الأمن الشامل، وهو مهوى الأفئدة، وقبلة الوجوه والقلوب، فيه مضاعفة الحسنات والأجور، بل هو أحب البقاع إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد كان السلف الصالح يقدِّرون حرمة البيت، ويعظمونه في نفوسهم تعظيماً عجيباً، حتى إن منهم من تحرج من سكنى مكة خشية الوقوع في المعاصي قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وكان جماعة من الصحابة يتَّقونَ سُكنى الحرم خَشيةَ ارتكابِ الذُّنوب فيه منهم: ابنُ عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: "الخطيئةُ فيه أعظم"، ورُوي عن عمر بن الخطاب قال: "لأَنْ أُخطئ سبعينَ خطيئةً (يعني في غيرِ مَكَّةَ) أحبُّ إليَّ مِنْ أن أُخطئ خطيئة واحدةً بمكة"([1]).
بل إن أهل الجاهلية مما قبل الإسلام كانوا يعظمون البيت العتيق، فيرى الواحد منهم فيه قاتل أبيه فلا يثأر منه ولا يزعجه قال الإمام القرطبي رحمه الله: "فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل"([2]).
وقد أمر الله سبحانه بتعظيم شعائر دينه، وإن من أعظم الشعائر تعظيم البلد الحرام الذي فيه البيت الحرام والمشاعر المقدسة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة:158)، والإحرام والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، والمبيت بمزدلفة...إلخ كل هذا وغيره من شعائر الله تعالى.
وقد أخبر سبحانه وتعالى أن تعظيم شعائره من علامات الإيمان فقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32) قال ابن العربي رحمه الله بعد أن أورد أقوال العلماء في المراد بالشعائر: "والصحيح أنها جميع مناسك الحج"([3])، وقال العلامة السعدي رحمه الله: "والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها"([4])، وتعظيم شعائر الله تعالى من تعظيم الله عز وجل.
وإنما شرع الله عز وجل لنا حج بيته الحرام، وعمارة تلك الأماكن المقدسة؛ لإقامة ذكره وتعظيمه، وتعظيم شعائره كما قال في محكم كتابه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج:28)، وقال تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} (إبراهيم:37) فهذا هو المقصود من حج تلك البقاع الطاهرة المقدسة.
وحري بكل مسلم يفد حاجاً أو معتمراً أن يعظم الله في تلك البقاع الطاهرة المقدسة التي اختارها على غيرها من الأرض، فإنه لا يعظم شعائر الله إلا المتقين، وقد كان إمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم خير من عظم تلك الشعائر، فإنه لما أتى مكة معتمراً عام صلح الحديبية، وصُدَّ عن البيت؛ أرسل لقريش أنه جاء معظماً للبيت وحرمته حيث "دعى عثمان فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائراً لهذا البيت، معظماً لحرمته"([5]).
ثم جاء السلف الصالح رضوان الله عليهم فكانوا لنا خير قدوة في تعظيم بيت الله الحرام وحرمات الله فعن طاوس قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "استأذنني حسين في الخروج فقلت: لولا أن يزري ذلك بي أو بك لشبكت بيدي في رأسك، قال: فكان الذي ردَّ علي أن قال: "لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلى من أن يستحل بي حرم الله ورسوله"، قال: "فذلك الذي سلى بنفسي عنه"([6])، وقال طاووس: "ما رأيت أحداً أشد تعظيماً للمحارم من ابن عباس رضي الله عنهما، ولو أشاء أن أبكي لبكيت"([7]).
ومن شدة تعظيم السلف الصالح لشعائر الله ومناسك الحج، واستشعار عظمة المولى سبحانه في تلك البقاع أنه ربما همَّ أحدهم بالتلبية فلا يستطيع إخراجها إعظاماً لها كما حصل لعلي بن الحسين زين العابدين رحمه الله، فعن سفيان قال: "حجَّ علي بن الحسين فلما أحرم اصفر وانتفض، ولم يستطع أن يلبي، فقيل: ألا تلبي؟ قال: أخشى أن أقول: لبيك، فيقول لي: لا لبيك، فلما لبى غُشي عليه، وسقط من راحلته، فلم يزل بعض ذلك به حتى قضى حجه"([8])، وعن منصور قال: "كان شريح إذا أحرم كأنه حية صماء"([9]) وهذا إن دل فإنما يدل على عظيم تقواهم لربهم، وخشيتهم منه، فلله در تلك النفوس العجيبة التي عرفت ربها في كل وقت، وازدادت به معرفة عند وفودها إليه.
وهذا سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرسم لنا درساً في كيف يكون المسلم في الحرم قال ابن عيينة: "دخل هشام الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سلني حاجة، قال: إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره، فلما خرجا قال: الآن فسلني حاجة (فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا) قال: والله ما سألت الدنيا من يملكها فكيف أسألها من لا يملكها"([10])، وعجباً من هذه الصورة الرائعة في هذا المكان العظيم.
وفي المقابل انظر إلى أحوال بعض الناس في الأزمنة المتأخرة لتَجِدَ العجب العجاب من مظاهر تنبئ عن عدم استشعار لعظمة الله عند بيته الحرام، أو تقدير لتلك الشعائر العظيمة، أو تقوى لله تعالى؛ فتجد البعض هداه الله لا يحلو له الكلام في الدنيا، والقيل والقال، وغيبة المسلمين؛ إلا في المسجد الحرام، وفي شهر رمضان، أو موسم الحج.
والعجب أن بعض ضعاف النفس يقدمون للحج وقد اصطحبوا معهم آلات اللهو للتسلية والترويح كما يقولون، وربما رأيت بعضهم يعاكس النساء، أو يلعب الورق والبلوت، أو يشرب الدخان، فأين ذلك من هدي سلفنا الصالح رضوان الله عليهم؟
نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر المسلمين أجمعين، وأن يجعلنا ممن يعظم شعائره، وأن يرزقنا تقوى القلوب. آمين.
[1] جامع العلوم والحكم (1/352).
[2] تفسير القرطبي (4/141).
[3] أحكام القرآن لابن العربي (5/421).
[4] تفسير السعدي (1/538).
[5] مسند أحمد (18930) مطولاً، وحسنه الأرناؤوط.
[6] المعجم الكبير للطبراني (3/119).
[7] أخبار مكة للفاكهي (2/265).
[8] سير أعلام النبلاء (4/392).
[9]أخبار القضاة (2/212).
[10]سير أعلام النبلاء (4/466).