عروة بن الورد( امير الصعاليك)
عروة بن الورد بن زيد العبسي,من بني عبس
والده من أشراف عبس وفرسانها المعدودين, الذين كان لهم دور في حرب داحس والغبراء .أما أمه فكانت من (نهد)من قضاعة, وهي عشيرة وضيعة لم تعرف بشرف ,فآذي ذلك نفسه وأحس في أعماقه بعار لا يمحى فقال:
ومآبي مـن عـارٍ أخال علمتُـه سوى أن أخوالي _ إذا نُسبوا _ نَهْدُ
ويقال أن هذا هو سبب ثورته على الأغنياء ,وان كانت ثورة مهذبة لم تحوله إلى سفاك ولا متشرد يرود مجاهل الصحراء,لا بل جعلت منه شاعرا مهذبا نبيلا, من أصحاب المناقب التي جمعت فروسية الفرسان وشيم الرجال الشجعان الذين اكتسبوا محبة الناس, فكانوا المقصد والمشورة في أوقات الشدة.
فارسنا من مشاهير شعراء الجاهلية واحد فرسانها وكرماءها وصعاليكها الشجعان .
لقبه:عروة الصعاليك ,قيل لأنه حامي الفقراء ويهتم لأمرهم ويغزي بهم ,ويقال انه أطلق عليه لأنه قال:
لحي الله صعلوكا إذا جن ليله مصافي المشاش الفاً كل مجزر
ليسعد الغنى من دهره كل ليلة أصاب قراها من الصديق ميسر
ولله صعلوك صفيحة وجهه كضوء شهاب القلبس المتنور
عاش في كنف والده واشتد عوده ليرى بعينيه أهوال الحرب وما تفعله بالضعفاء والفقراء ,ليشتد عزمه في البذل والعطاء وليعرف شدة الفرق بين الذين يملكون والذين لا يملكون فتتشكل في أعماقه بطولات يستعان بها لرفع الحاجة ولتخفيف ضنك الفقر واشتداد العوز.لتظهر معالي الكرم والعطاء الحاتمي إلى جانب المروءة والشجاعة عند عنترة العبسي وزهير بن أبي سلمى. ثائرا متمردا على الأغنياء اللئام والبخلاء, يجود على الفقراء والضعفاء وعابري السبيل بأسلوب يماثل ما نعرفه بالتكافل الاجتماعي.
عروة صاحب المنحى المثالي للصعلكة
لم يترك عروة قبيلته,بل بقي فيها معززا مكرما مهيب الجانب بعكس غيره من الصعاليك الذين تعددت أسباب تصعلكهم والذين انتشروا على رقعة الصحراء الواسعة يحملون آراءهم وقضاياهم بعيدا عن ظلال القبيلة, متمردين على القيم وحدود القبيلة ,لينفرد الكثير بأنفسهم ولتنبذهم قبائلهم مبتعدين فوق ظهور جيادهم يحملون ثورتهم ومواقفهم لتسابق الريح العاصف في أيام عصفت ريحها ولم تثنيهم عن أفكارهم التي انطلقت غاضبة في أفاق استحالة التغيير.
شعراء في غاية الرقة والغضب اجتمعت فيه نقائض البشر فأزدان بإشعارهم سجل العرب.ليسجلوا أخبار المجتمعات والبطولات والعيش المتفرد في أجواء كانت للقبيلة فيها المناعة والرأي الأخير,ومظلة الحماية في صحراء مترامية الأطراف قليلة الموارد شحيحة المياه,ليكونوا شهداء على حراك اجتماعي مستتر تحت ثقل القبيلة ووجودها كأكبر كيان اجتماعي لا تزال آثاره باقية لغاية ألان,
ولعل اختلاف اتجاهات السلوك عند الصعاليك ألبسهم لباس الوحشة في استلاب أرزاق الناس وسفك دماءهم في وحشة الصحراء وقفارها.
إلا أن إبداعاتهم الشعرية رفعتهم إلى أرقى مستويات العطاء الإنساني الأقرب ما يكون إلى النفس البشرية التي نأت بنفسها بعيدا عن مظاهر التملق الاجتماعي والسلوك المضبوط برضا الآخرين ليقترب الشعر أكثر ما يكون من النفس البشرية ونوازع الحرية والانطلاق والاحتفاظ بكرامة الإنسان والبحث عن دروب العدالة في أوقات انعدمت فيها رسالات الإصلاح فكانت سيطرة القوة والمال وتغييب القيم الإنسانية في حق أشخاص حاكمتهم مجتمعاتهم لأسباب وجودهم التي هم لها من غير رأي.
فوق صهوة الخيل كانت أوطانهم تتحرك فوق الأرض الجافة بعيدا عن القبيلة والأهل في مدارات من الإبداع الفكري والإنساني اختبر الفروق الاجتماعية والاقتصادية التي جعلت من القبيلة الملاذ الأمن والستر الأعظم.
في ظل هذه الظروف استطاع شاعرنا أن يوازن بين صعلكةة السلوك وبين تهذيب النفس وكرم الأخلاق بمنحى مثالي بقي أمثولة في عقول العظماء ممن فهموا معنى الحياة واحترموا الوجود الإنساني بكل مناحيه, خيره و شره.
" من زعم أن حاتماً أسمح الناسِ فقد ظلمَ عروة بن الورد"
للرجال, رجال يقيسونهم, يثقلونهم ويضعوهم في مواقعهم التي هم لها, بدون زيادة أو نقصان. يفهمون مقاصدهم ويحترمون شمائلهم ليكونوا حكاما على أثارهم ووجودهم مهما اختلف الزمان ومضت السنين.
فلقد أثر عروة الفقراء على نفسه بطعامه على الرغم مما به من جوع واكتفى بشرب الماء القراح,ويعيبه أصحابه على ضعفه وهزله فأجابهم :بان له نفسا تسمو به إلى المجد وانه يوثر الآخرين على نفسه.
وفي حرص الأب على استقرار الأبناء وقربهم من الأهل فقد طلب عبد الله بن جعفر الطيار من معلم ولده قائلا:"لا تُروّهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها (دعيني للغنى)، لأن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم."
دعيـني للغنـى أسعى فإني****رأيـتُ الناسَ شرُّهُمُ الفقيرُ
وأبعدهم وأهونـهم عليهِم****وإن أمسى لهُ حسبٌ وخيرُ
ويُقصيـهِ النّديُّ وتزدريـهِ****حَليلتـُهُ وينهـرُهُالصغيـرُ
ويلقـى ذا الغِنـى ولهُ جَلالٌ****يكـادُ فـؤادُ صَاحبِهِ يَطيرُ
قليلٌ ذنبـُهُ والذنـبُ جـمٌّ****ولكِـن للغنـى ربٌّ غفُورُ
لله درك يا ابن الورد!! لقد استبصرت في شعرك حال واحوال الناس في زماننا هذا ؟؟ فجاء شعرك في مقتل الحقيقة وصوابها, ليكتمل حديث العظماء بسؤال الخليفة عمر للحطيئة :كيف كنتم في حربكم؟قال:كنا ألف حازم, قال:كيف؟قال:كان فينا قيس بن زهير وكان حازما,وكنا نقدم إقدام عنترة,ونأتم بشعر عروة بن الورد وننقاد لأمر الربيع بن زياد.
سلوك عروة بين التناقض وسمو الرؤيا
لا مناص للصعلوك إلا أن يكون جريئا غازيا
امتلاء ديوان العرب وسجلها بأشعار ابن الورد الذي جمع في ديوان برواية السكيت ,ليردد في أشعاره معان كثيرة ورائعة جعلت معاصريه ومن جاء بعدهم يعجبون به إعجابا شديداً,كإعجابنا الذي قادنا إلى البحث عنه وعن أشعاره ليسطع نجمه من جديد على صفحات التاريخ .
عروة الإنسان المتمرد والقائد على طريقته يخبرنا أن للصعلوك وجهان:
أولهما الصعلوك الذي لا يهتم إلا بنفسه ولا يقوم بحقوق من يلزمه فهو عالة على قبيلته ومجتمعة وجديرا بان ينبذ.
لحا الله صعلوكًا إذا جن ليله مضى في المشاش آلفًا كل مجزرٍ
يعد الفتى من دهره كل ليلة أصاب قراها من صديق ميسرٍ
ينام عشاء ثم يصبح قاعدًا يحت الحصى عن جنبه المتعفرٍ
يعين نساء الحي ما يستعنه فيضحى طليحًا كالبعير المحسر
أما الصورة الثانية للصعلوك فهو ذو الوجه المضيء كالشهاب وان يمت تبقى ذكراه عطره خالدة.
فلله صعلوكاً صحيفة وجهه كضوء شهاب القابس المتنورٍ
مطلا على أعدائه يزجرونه بساحتهم زجر المنيح المشهرٍ
وإن يعدو لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظرٍ
فذلك إن يلق المنية يلقها حميدًا وإن يستغن يومًا فاجدر
ومن شعره قصيدة رواها الأصمعي في اصمعياته بعنوان(اقلي علي اللوم) وفيها يوجه الخطاب لزوجته سلمى بنت منذر التي تلومه على كثرة مخاطرته ومغامراته في الغزوات والغارات.فرد عليها قولها بأنه يريد أن يصل إلى المجد وجمع المال حتى لا يتركها فقيرة بعد مماته مؤكدا أن لا مناص للصعلوك إلا أن يكون جريئا غازيا يخشاه الناس ويتأهبون دائما لغزواته وغاراته ليكفي بذلك أهل عشيرته ويسد حاجتهم بالبذل المتواصل وليبقى جوده بين أهله قائم ومستمر.
وقال عروة بنالورد:
أقلي علي اللوم يابنة منذرونامي***** فإن لم تشتهي النومفاسهري
ذيني ونفسي أم حسان إني بها******قبل أن لا أملك البيع مشتري
أحاديث تبقى والفتى غير خالد******إذا هو أمسى هامة تحت صبر
تجاوب أحجارالكناس وتشتكي*****إلى كل معروف تراه ومنكر
ذريني أطوف في البلادلعلني*****أخليك أو أغنيك عن سوء محضر
فإن فاز سهم للمنية لمأكن********جزوعا وهل عن ذاك من متأخر
وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد******* لكمخلف أدبار البيوت ومنظر
تقول لك الويلات هل أنت تارك ******* ضبوءا برجل تارةوبمنسر
اتسعت سيرة عروة بن الورد في قصص العرب وتراثهم لتخبرنا عن رجل أبدع في تهذيبه وأخلاقه ليكرم أهله وليكون العون لهم في البذل والعطاء,رسائل نستطلع من أخبارها عظم الواجب تجاه الذين نحبهم في أوقات الشدة والأزمات وتسترجع في ذاكرة العرب قيم العروبة والنخوة التي تذيبها في وقتنا الحاضر مصالح تفرقت في البحث عن المال لتنعزل بنفسها عن قيم ومبادئ التلاحم والإثارة,لتزداد الفجوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون.
لقد توفي شاعرنا الصعلوك المهذب سنة 30 قبل الهجرة ليؤكد بسيرته حقيقة التعامل الإنساني الاجتماعي الذي نادى به الإسلام من بعده من حيث التكافل الاجتماعي وحق الفقير في مال الغني بصورة اختلفت كثيرا من حيث المبداء والأسلوب لكنها التقت عند النتائج