. . وعَاد العيد
ما إن يقترب العيد .. إلا وتُقلب الذاكرة صفحات أعيادٍ مضت
ماكنت لأعرف كنه العيد لولا تتابعها على قلبٍ أشرب معانيها معنى تلو معنى حتى خلص إلى حقيقتها ..
فكلعبة حظٍ مجهول يرسُب في قعر كأسٍ لست تظفر بسرها قبل ارتشافها عن آخرها ..
تجلت للروح معاني العيد السعيد ..عيداً بعد عيد
فتبدى لي العيد - أول ما أدركته - فرحاً تجسده بعض أشياء تقتنى ، وبضع مظاهر يُحتفل بها ..
ألفته ثوباً جديداً جميلاً ، وزينة خاصة مستثناة ، وزيارات أهلين ، واجتماع أحبة ، وتبرج أمكنة ..
ثم عاد ليتخذ له شكلاً أكثر خصوصية في أعياد قضيناها في بيت جدتي فكم كانت تطيبها بأطياب
ماضيها الجميل .. حين تدعو الحفيدات ، ليتحلقن حولها ، فيلبين ،
ويقبلن عليها ملء قلوبهن لهفة وشوقاً ..
هذه تستند إلى ذراعها ، وتلك تأوي إلى حجرها ، وأخرى تطوف حولها ..
وهي تفيض عليهن كلهن حناناً وعطفاً ورحمة ..
تهديهن حلماً ، وتسمعهن حكاية ، وتخبئ في كفوفهن الصغيرة خضاباً يزينها ،
فيطبقن أيديهن على حنائها ، وكأنهن يقبضن على فرح يخشين تفلته من بين الأنامل خلسة أو جهرة ..
و تظل هي تحرس سعادتهن حتى يغلبهن الوسن ، فيغمضن أجفانهن وقد ارتسمت على شفاههن بسمات الرضا ..
فلاتفارقهن حتى ينمن ناثرات على الوسائد شعورَهنّ و المُنى ..
وكذا عاودنا العيد أعواماً في ذلك البيت الحبيب محفوفاً بذات البهجة .. حتى لانكاد نذكره قد عاد في
أحدها خاوياً من روح مراسمه التي ألفنا ،
إلى أن كبرنا .. ورحلت جدتي .. ومضى عهد الخِضاب ، فلا سقف أظل جمعنا ذاك بعد سقفها ..
ولا حكايا تحيك مشاهدها نبرة مرتعشة طالما أرهفنا لها الأسماع ، حتى أنصتت الجدران لخفقاتنا ..
فعاد العيد علينا بعدها شيخاً متغضن الوجه متعباً ، لابساً ثياباً شتى ، فمرة يتقمص الفرح ،
ومرة يتوشح الحداد ..
لكنه مافتيء يعود وعلى محياه مسحة سعادة يضفيها عليه وعلى الوجود بعض من نستمد وجودنا من وجودهم ..
ومع ذلك لم يتغير شعوري به كثيراً فمازال مختصراً في شخوص بقي فيهم من يقال لمثلهم
إنما العيد أنتم / وإنما أنتم العيد ..
و ظلّ كذلك وظلوا إلى أن ساكنتهم الهموم فلم يعودوا في القلب فرادى ..
وأطلت على النفس الحوادث وتزاحمت فيها أفراح ، وأتراح ، وأمنيات ..
ففرحة يحلو بها العيد .. وحزن يكفهر معه العيد .. وأمنية ناجزة تزيده ألقاً ..
وأخرى عالقة تمتصه قلقاً ..
وعاد العيد .. ليكون مناسبة لتصفح الماضي وموعداً لزيارة أجداث متناثرة في الذاكرة ..
فمحتفلة أنا في فجره ، وزوارة قبور أضحي كلما حلّ ضحاه .. ولم يُبق لي ذلك من مشاعره
الفانية سوى خيط رفيع لفرحة حيّية تحملها صباحاته المشمسة ، معبقة برائحة الطفولة الحبيبة ..
وظل العيد كذلك يزدان ويشحُب بزينة أيامي وشحوبها ..إلى أن عاد يوماً فرأيته خلقاً آخر يخالف
في تكوينه صورته التي لم تكن تجمع سوى الأقارب والمعارف ..
ممن بقي العيد معرفاً بهم مؤطراً بوجودهم ..
عاد وقد تجلى لي في صورته التي جعله الله عليها ..حين خرجت لمصلى العيد للمرة الأولى
ورأيت جموع المسلمين ..
ضعفاءهم وأقوياءهم ، صغارهم وكبارهم ، رجالهم ونساءهم ، أطفالهم ومخدوميهم ،
يُكبرون في صعيد واحد ..
يركعون ويسجدون .. يضرعون ويشكرون .. يتصافحون ويتعانقون ويهنيء بعضهم بعضاً
في صورة تملأ آفاق النفس أنساً ، وتطلق الفِكر من محبسه الضيق ليجوب في روعة المشهد
فيدرك قول ابن عمر بن عبد العزيز : " إنما العيد لمن أطاع الله"..
عندها وبين يديها تساقطت من العقل فكرة تقادم عليها الزمن ، ولم يعد العيد محض موعد سنوي يضرب
لممارسة الفرح بلا وعي بمعانيه وغاياته ، فلا يختلف كثيرا عن سائل شفاف نمزجه بمشاعر الساعة المُعاشة ،
أوأحاسيس السنوات المُعتقة ، فيُستمرأ أو يُمج ..
بل ليحيا العيد كما أراده الله شعيرة تعظمها القلوب ، فلا يخنقها حزن .. ولا يُفنيها فَقْد ..
ولا تقعد بها أمنية ..
وليعود العيد ذِكراً ، وإخاءً ، وصلة ، وطاعة مختومة بالشكر المعطر بالفرح ..
إذ الفرح به عبادة لا يبطلها تغير الأحوال على القلوب ، أو ينسخها غياب الأحبة عن الوجود..
( قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا ) .
م0ن