تعتريه ( فوبيا ) لا يحب أن يحدث بها الناس و يتحاشى مسالكها ..
فهو يخاف أن يكون في المصعد وحده ..
أراد يومها أن يرتقي السلالم ..
و لكنه رآها فإستيقظ فيه داؤه القديم..
قابلها هناك مصادفة عند المصعد
لا يعرفها ..
لا تعرفه ..
شجعه وجودها أن يستعمل المصعد ..
و شجعها وجوده على أن تصعد معه ...
حارس العمارة ذهب في مشوار ، فترك باب غرفته مفتوحاً على مصراعيه ليؤكد وجوده و أنه غير بعيد.
جمعهما ( المصعد ) في خلوة إجبارية..
ألقى إليها تحية عجْلى ردَتْ إليها رباطة جأشها المفقودة.
العمارة تضج صمتاً في هذا النهار الملتهب..
لفحه عطرها الأخاذ ..
إسترق نظرة إلى ذراعها البضة التي انكشفتْ و هي تتفقد خمارها على رأسها الذي ما فتيء ينحسر .
و أساور من ذهب تموسق حركة يدها و تدغدغ أفكاره المشوشة.
بقايا سهرة الأمس تضج بها رأسه و جسده المنهك ..
و رغماً عن ذلك ظل ينظر إليها خلسة ملتهماً ملامحها و تقاطيع جسدها ..
المصعد يُحْدث صريراً كصوت عجلات القطار الصدئة على القضبان ..
ثم توقف .. يصدر صوتاً متهالكاً و كأنه يتذمر من حركته التي لا تهدأ.
نظرتْ إليه بهلع ...
قال من خلف فزعه : لا تخافي .. سيعود التيار الكهربائي ..
قالت منفعلة : لا أعتقد ، فالحارس غير موجود..
قال و هو يزدرد ريقه : ستعود الكهرباء .. سترجع .. لا تقلقي ..
طال الإنتظار ..
طرقا الباب مراراً ..
تبكي في يأس و حرقة..
وقف كمن يستجمع شتات تماسكه و إتزانه.
قال و هو يحاول أن يجعل الأمر و كأنه لا يثير كل هذا التوتر : لم أتعرف عليك ..
قالت في غضب : هل هذا وقت تعارف؟ ..
قال في لا مبالاة : إن المصائب تجمعن المصابينا ..
قالت من بين دموعها : سنموت هنا بلا شك ..
قال معاتباً : قوي إيمانك بربك ..
هدأتْ قليلاً
قالت من بين نحيبها المكتوم : إسمي ( سميحة )
قال و هو يفتعل سعادة غائبة : عاشت الأسامي يا سميحة .. أنا كمال .. أعمل سمسارا .. و إنت ؟
قالت : أنا مدرِّسة و أتيت هنا لأزور بنت خالي ..
يتصبب العرق غزيراً ...
تتحاشى نظراته الغريبة ... فتنظر لسقف المصعد ..
تبدأ البكاء من جديد و هي تقول : كل هذا بسبب غضب أمي مني ... لم أطلب منها العفو قبل أن أخرج.
قال و هو يحاول جاهداً أن تخرج كلماته دون أن يبدو كالخائف : فيم كان غضب أمك عليك ؟
قالت و هي تستعيد الأحداث في مخيلتها ساهمة : تريدني أمي أن أمد أخي العاطل بكل ما يحتاجه من مال ، و أنا أرفض أن أصرف على عاطل و هذا ما يغضب أمي مني.
قال بسرعة : لا أعتقد أن غضب أمك لهذا السبب يجعلنا في هذه الورطة ..
قالت متهالكة : أنت لا تعرف أمي..
صمتٌ مُطْبِق ..
ينزلق المصعد في سرعة مرتَجَّاً .. ثم يصمت ثم يتوقف محدثاً طقطقة مخيفة..
الخوف يدب في قلبه ...
تجلس على أرضية المصعد واضعة يديها على رأسها ...
قالت و هي تمسح دموعها المختلطة بالعرق المتصبب : ما الذي فعلته في دنيتي يا ربي ؟
قال كالهامس : أنا الذي فعلت و الله.... فعلت و فعلت و فعلت...
ثم قال بخجل : بالأمس القريب جئت البيت سكرانا .. و عندما لم أجد العشاء جاهزا .. ضربتها ضربا مبرحا. كانت تدعو الله أن ينتقم مني.
قالت في غضب من بين بكائها : فِعلتُك لا تساوي دعاء الأم على أبنائها.
قال كالتائه : كل مصائبي تحدث بعد أن أظلم تلك المسكينة أو أمد يدي و أضربها.
قالت : ما الذي جمعني بك هنا ؟
قال ساخراً : هل تقصدين أن غضب زوجتي أسوأ من غضب أمك عليك ؟
كلما مر الوقت .. كلما تضخم الخوف في نفسيهما و تفرَّع إلى وساوس من مختلف الأشكال والأنواع..
الصمت المطبق يزيد من وتيرة الخوف ، و كأن العمارة قد خلت من ساكنيها.
قال في مرارة : أنا جربت أن أكون يتيما.. جربته بمعنى الكلمة و شربت معاناة اليتم.. و هذا ما يخيفني .. أخاف على حبيبتي الصغيرة ( عزة ) و ولدي العزيز ( مجدي ) .. أخاف أن يعيشوا اليتم مثلي.
تشنجتْ في عويل بصوت عالٍ ...
قال بصوت تغمره الحشرجة : إنت متزوجة ؟
قالت و هي تغطي وجهها بثوبها : مطلقة
قال و هو يحاول تلطيف الجو : و من هو قصير النظر هذا الذي طلقك ؟
قالت : أنا التي طلقته ...
قال : لماذا ؟
قالت : كان من اختيار أبي.... أرضيت أبي و تزوجت من أختاره لي ثم جعلت زوجي يتجرع ألوانا من العذاب.
قال : من المؤكد أنه سعيد بنجاته من براثنك.
قالت : قم بتفسير الأمر كما يحلو لك.
قال : ألم تندمي على تعذيبك إياه ..؟
أطرقتْ طويلاً .. ثم أجهشتْ بالبكاء ..
قالت : ما فعلته به يتوارى إبليس خجلا منه... عذبته كثيرا .. جعلته يبدو وضيعا و غير محترم أمام أهله و أصدقائه .. لم يسمعني قط يوما كلمة جارحة.
ثم واصلت تشنجها .. و هي تتمتم : سامحني يا رب ..
قال : إذن أنا من يحق له أن ..
أصوات تأتيهما من أسفل ..
قال لها : لو خرجنا من هنا سالمين فسأذهب مباشرة لأقبّل رأس زوجتي.
قالت كمن تؤَمِّن على تعهده : و أنا سأذهب لأعتذر لزوجي و سأحاول أن أعوضه عما فات.
عندما إنساب المصعد هابطاً في تؤدة .. ثم توقف و صافحتهما نسمات باردة ..
شاهدا حارس العمارة وهو يتمتم : حمدا لله على السلامة ..
إبتسمتْ له و هي تعانقه كمن تعرفه منذ زمن ..
قالت لزميل الورطة : هل ستذهب مباشرة للاعتذار لزوجتك ؟
قال و ابتسامة غامضة ترقد على أطراف فمه : صراحة هي التي تبدأ دائما بالخطأ .. ليس من المفروض أن ترد على و أنا سكران.
ثم أردف : أذهبي مباشرة لأمك لتعفو عنك.
قالت بعصبية و هي تمسح عرق وجهها: هل تقبل أنت أن تعول شابا عاطل و كسول ؟
قال : حسنا أذهبي و اعتذري لزوجك الآن و عوضيه عن أيامه المُرة معك ..
قالت بتأفف : الرجل الذي يتزوج من امرأة لا ترغب فيه ، أعتقد أن به خللا نفسيا ؟
عندما إفترقا دون الصعود إلى وجهتيهما في العمارة ..
توجه هو إلى حيث يمارس ( مزاجه ) و يستسلم لسلطانه..
أما هي .. فقد توجهتْ إلى السوق دون أن تعرف سبب توجهها إليه.
***
جلال داود ( أبو جهينة ) الرياض