صديقتي الوفية ....
أُقبِّل جبينك ( رغم كل شيء ) ..
و أكرر .. رغم كل شيء بدر منك نحوي ...
قرأتُ خطابك الناري ..
و لم أغضب .. فقد كنتُ أتوقعه في أي لحظة ..
كنت أعرف أن غضبك سيتحول إلى سيل جارف من الإحتقار ..
و إعصار لا يُبْقِي و لا يذر.
و أعلم تماماً بأنني الآن في نظرك فتاة لا أستحق أن أرْقَى إلى مصاف الأسوياء من البشر ..
و لك كل الحق في ذلك ..لك الحق في وَصْمِي بكل ما يخطر لك على بال ...
و لكنني أرى أنه من حقي أن أتصرف كما تصرفتُ ..
يدفعني قلبي و إحساسي .. فأنا إنسانة من لحم و دم أولاً و أخيراً .. أليس كذلك ؟
عزيزتي ..
متى تم تعارفنا ؟
منذ أن دلفنا ذلك اليوم في المدرسة الإبتدائية قبل سنوات طويلة مضت ..
تآلفت الروحان منذ أوا لقاء لنا ..
إنها مسيرة طويلة من الزمالة و الصداقة و المحبة ..
لا أحد يحبك مثلي ..
و أثق في تقديري هذا لدرجة كبيرة ..
أعجبتني شفافيتك .. و صدقك .. و حبك لأسرتك ..
و خاصة والدك الذي تفتخرين به أيما إفتخار و هو يستحق ذلك ..
هذا الرجل السامق ..
بدأ إعجابي به بسببك ..
إعجابك به الذي لا يدانيه أي شعور آخر لديك ..
شعور أقرب إلى التقديس ..
تكادين تنزهينه عن الخطأ و عن كل فعل بشري ..
بل يرقى عندك إلى مرتبة الملائكة ..
تتحدثين عنه .. فأقارنه بلا شيء ..
فأنا لم أعرف طعم الأبوة قط ..
عشتُ يتيمة الأب منذ أن وعيت هذه الدنيا الغريبة ..
أعيش في كنف والدتي الغنية و زوجها الطامع في ما تملك و الزاهد فيها و فيني و حتى في أولاده ..
تتحدثين عن والدك..فأحاول أن أرسم صورة لأبي و أتساءل :هل يا ترى كان سيكون مثل والدك ..؟
و أصدقك القول .. بأنني كنت أحسدك أحياناً .. و أغبطك تارة ..
و أحياناً أخرى تطفو مشاعر حبي لك فأسعد لسعادتك ..
أليس معذورة أنا في كل هذه المشاعر المتضاربة ؟؟
ألا أستحق الإشادة لأنني كوَنْتُ شخصيتي هذه دون أب يقود خطواتي في دروب الحياة و مسالكها ؟؟
حبيبتي و صديقتي ...
أعلم أن غضبك لن تنطفيء جمرته و لن تموت جذوته طالما أنا على قيد الحياة ..
إنقلب حبك لي إلى بغضاء .. للأسف البالغ.
و لكن كل همي ألا تغضبي من والدك ..
فهو من طينة آدم و حواء ..
فإن كنتِ تظنين أن ما فعله خطأ كبير ..
فأجلسي إلى نفسك بهدوء ..
و فكري في الأمر من زاوية أخرى
و حاولي أن تجدي الأعذار و المبررات بعيداً عن كونه والدك .. ضعيه في مرتبة البشر العاديين ثم أحكمي ..
مشكلتك أنك تعتقدين جازمة أنه بعيد كل البعد حتى عن إرتكاب هفوة صغيرة ..
لم أمارس شيئا في الخفاء ..
لقد بدأ إعجابي بأبيك ينمو في قلبي المتعطش أمام ناظريك وتحت سمعك و بصرك ..
عرفته من إطرائك له ..
لا تنكري أنني كنت أقف مشدوهة أمامه ...
فتغلغلتُ إلى دواخله لأعرفه أكثر لأنني كنت لا أعرف كيف يكون الأب و لا أعرف معنى أن يربت أحدهم على كتفي مواسياً أو أن يمد أحدهم يده ليمسح دمعة منزلقة على خدي من القهر والعذاب ..
فأنت تعرفين بأنني لم أقل يوما لأحد ( يا أبي )
و لم أمسك بيد أحد و أنا أنظر إليه بفخر كما تفعلين مع أبيك ...
و لأن والدك فيض من بحر الرحمة و المحبة ..كانت أمواجه تصيبني برذاذ يكفيني لأنام تكتنفني الطمأنينة و الهدوء و كأنه يحيطني بذراعين من الرعاية و الشفقة ..
أغفو فأراه في منامي محاطاً بي و بك ..
نعم .. بي و بكِ ..
حاولت أن أن أقول لك بأنني أحب والدك ..لأنه بدأ حباً ينبع من محبتي لك ..
حاولت أن أدفع عن نفسي جذوة بدأتْ تستعر في أتون روحي وحنايا قلبي ..
خفت أن أصارحك ..
فكتمتُ ما يجيش بداخلي ..
فرِحْتُ به أول الأمر لأنه نبْض لم أحس به من قبل ..
أحسست به كوسوسة تهمس في الدواخل عند تذوق شيء جرَّبه أحد قبلي و حذرني من أن رحيق شهده الطاعم دونه أشواك ومزالق ..
إحساس جعلني أسترسل بعيداً أسبح في خيال يزين إطاره ألوان قوس قزح و تغرد أسراب من الطيور بين أغصانه ..
و لكن ما أن بدأ النبض يجعلني أتحاشاك و أتحاشى مقابلتك و التحدث إليك ..شعرت بعِظم ما أنا مقبلة عليه .. تقود خطاى مشاعر وليدة تدغدغ كياني .. و تكبح جماحها صداقتي لك ..
أرأيت أي عذاب كنتُ فيه ؟؟
أرأيت مدى تمزقي و تشتتي ؟؟
تخيلت للحظة بأنني أعيش حالة من إنفصام الشخصية ..
فحبي لك لا زال يقودني إلى الإرتماء في حضنك كما كنت أفعل عند كل مشكلة تجرح إحساسي.
و لكن هذه المرة لا أجرؤ على فعل ذلك ..
و حبي لوالدك يجعلني أقطع كل صلة بك لأنك تعتقدين بأنني سرقته منك ..
فهذه الكلمة تجعلني أجفل و تجعل قلبي ينتفض رعباً ..
هل سرقته منك ؟
هذا ما خطته يدك في خطابك لي ..
هل تعتقدين بأن والدك لن يعد كما كان ؟
أنا أجزم بأنه يحبك أكثر من ذي قبل ..
فغيرتك عليه تجعله يزداد يقيناً بأن حبك له يفوق أي مشاعر أخرى ..
و خاصة عندما قرأ في خطابك الفقرة التي تقولين فيها :
(لن ألوم أبي ..فهو في غمرة الخلاف العائلي الحاد الذي جعل والدتي تغضب و تترك له البيت كل هذه السنوات ..هو خلاف أعتقد أنه لم يكن طرفاً في إذكاء أواره أو تأجيج شرارته أو حتى سببا فيه ..فإن أبي و بشحنات عاطفته الجياشة ..وجدك أمامه فتاة يتلهف قلبها البكر متعطشاً لقطرة واحدة من الحنان ..فما أن أحس بتجاوب قلبك حتى فتح نافذة لك مُشْرعة دونما ضوضاء و بهدوئه المعهود ..فتسللتِ إليه و تربعتِ في خضم أمواجه المتلاطمة التي غمرتْنا طويلا .....
لماذا أنت بالذات ؟ لماذا لم تراع شعوري ؟ كنت أتمنى أن تكون فتاة أخرى لا أعرفها حتى نفرغ غضبنا عليها سوياً ..و لكن لك أن تعلمي ..إنه أبي .. و لن أتركك تنعمين طويلاً بخيانتك لي ) ..
هذه الفقرة جعلت أبيك يردد إسمك في هذيانه ذات ليلة ..
عزيزتي..
لقد تزوجته سراً ..و لا أدري كيف وصلت إليكم الأخبار بهذه السرعة ..
فقد كانت النية أن يكون الخبر على دفعات ..
و لكن لتعلمي و الله على ما أقول شهيد .. أنا سعيدة للغاية بأبيك لسببين ..
الأول لأنني أحببته كرجل بغض النظر عن كونه والد صديقتي أو أنني سرقته أو أنك تضعين فعلتي في خانة الخيانة ..
الثاني :هو أن حبي له مضاعف .. لأنك يا هذي غَيْضٌ من فيْض هذا الرجل الحبيب..
أنظر إليه فأراك و أراه في آن واحد .. أهناك سعادة أكثر من هذا ؟؟
لقد وضعتك في كفة و هو في كفة أخرى ..
فلو فقدته فلن أحظى بحب مثل حبي له ..
و لو فقدتك مؤقتا اليوم ..فأنا أثق بأن علاقتنا ستعود يوما بعد أن تهدأ نفسك و تخبو سورة غضبك.
و سيقف والدك معي ليعيدك إلى صداقتي مرة أخرى ..
كان بإمكاني أن ألوذ بوالدك و حبه و أغمض عيني عنك ، بعد أن فزتُ بأسباب سعادتي ..
و لكن حبي لك و صداقتي لك و معزتك عندي ..كلها أشياء تجعلني لا أتنازل عنك مهما فعلتِ أو قلتِ .. فأعذريني و أرحميني .. فلن أغفر لنفسي فقدانك ..
لك أن تكرهينني أو تنسيني ..و لكن حبي لك لم و لن يتغير حتى و إن تركني والدك إرضاءاً لك ..
أختم رسالتي و دمعة كبيرة تتساقط على طاولتي ..
ليتك معي لترتاح رأسي على كتفك ..
لك دوام المحبة و التوفيق ..
صديقتك السعيدة و المعذبة في آنٍ واحد...
***
جلال داود (أبو جهينة ) الرياض