إياك والمظاهر الخداعة
الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد...السلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
معنا اليوم حديث شريف، يشتمل على ـ قصة بل قصتين ـ قصيرة تبين لنا مظهراً من مظاهر ضعف الإنسان في هذه الحياة ألا وهو اغتراره بالمظاهر وانخداعه ببريقها دون أن يفطن إلى ما تخفيه فى طياتها من شر ..
روى البخارى ومسلم من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "لم يتكلم فى المهد إلا ثلاثة .. عيسى .. وكان فى بنى إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلى . جاءته أمُّه فدعَتْه فقال أجيبها أو أصلى؟ فقالت : اللهم لا تُمِتْه حتى تُرِيَه وجوهَ المُومِسات، وكان جريج فى صومعة فتعرضت له امرأة فكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها فولدت غلاماً فقالت : مِنْ جريج، فأتوه، فكسروا صومعته، فأنزلوه وسبُّوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال : مَنْ أبوك يا غلام ؟ قال : الراعى. قالوا : نبنى صومعتك من ذهب ؟ قال لا إلا من طين.
وكانت امرأة ترضع ابناً لها من بنى إسرائيل، فمرّ بها رجلٌ راكبٌ ذو شَارَةٍ، فقالت : اللهم اجعل ابنى مثله، فترك ثديها وأتى على الراكب فقال: اللهم لا تجعلنى مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه ثم مرت بأَمَةٍ يقولون لها : زَنَيْتِ ـ سرقت ـ فقالت: اللهم لا تجعل ابنى مثل هذه، فترك ثديها وقال اللهم اجعلنى مثلها، فقالت : لِمَ ذاك ؟ فقال : الراكب جبار من الجبارة، وهذه الأمة يقولون سَرَقَتْ ـ زَنَتْ ولم تفعل.
ولننظر إلى الرضيع وأمه لنرى ما قصتها: أمٌّ فقيرة بائسة تقف على قارعة الطريق أمام الغادين والرائحين، تطعم وليدها من ثديها، وبينما هى على تلك الحال، إذ تجد نفسها فجأة أمام راكب ذى شارة، إنها أمام رجل عليه مظاهر العز والقوة والغنى، فاستشرفت نفسها أن يكون ولدها فى مستقبله كهذا الرجل فدعت أن يكون ابنها مثله ... لكن الرضيع يعترض على هذا الدعاء ويدعو ألا يكون مثل هذا الرجل.
ثم ترى الأم صورة أخرى تناقض تماماً الصورة الأولى فهى ترى امرأة سوداء تُضْرَب لاتهامها بالسرقة والزنا .. فتسارع المرأة بالدعاء ألا يجعل اللهُ ولدها مثل هذه الجارية .. فيدعو الرضيع أن يكون مثلها ... وهنا يتراجعان الكلام معاً (الأمُ والرضيع) .. فالأم حيرى من أمر ابنها .. تراجعه الحديث، وقد اطمأنت إلى نطقه غير المألوف، علها تجد عنده ما يريحها من هذه الحيرة المستبدة التى نشأت من التناقض بين دعائها له، ودعائه لنفسه، وإذا به يتجه إليها، يكشف لها ولنا السر فى تلك المفارقة، ويفسر ذلك الموقف الغامض العجيب ببيان حقيقة ذلك الراكب الذى يبدو فى مظهر الخير، وتلك الجارية التى تبدو فى مظهر الشر، مع أن الواقع أن كلا منهما على نقيض ما يظهر للناس من أمره، وهو كشف غيبى يجريه الله العلى القدير الفعال لما يريد على لسان هذا الرضيع.
ما يقال عن الفرد فى قضيتنا هذه ـ يقال عن الأمم أيضاً فرُبَّ أُمَّةٍ صائلة، فى الأرض جائلة، تملأ القلوب هيبة وفزعاً، وهى من داخلها خاوية على عروشها، فجسدها معطوب، وأخلاقها مريضة، وضمائرها مستترة، تريك من نفسها الأمن وهى خائفة وتُظهر لك الشبع، وهى جائعة، يغتر بها المغرورون، ولكن الله عز وجل يكشف أمرها، ويهتك سترها، وعن مثل هذه الأمة يقول تعالى:
"وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" [النحل 112].
وعلى العكس من ذلك فقد كان الصحابة رضى الله عنهم أمة قليلة العدد والعتاد والمال والثروات، وكانوا فى ظاهر أمرهم ضعفاء، لكنهم كانوا عند الله عظماء، ولذا فقد أيّدتهم ملائكة السماء.
هذا ابن مسعود يصعد أعلى نخلة فيعجب الصحابة لدقة ساقيه، فيبين لهم النبى صلى الله عليه وسلم أنها عند الله عز وجل أثقل من جبل أحد. هكذا إخوتى الكرام بينت لنا هذه القصة كيفية النظر إلى الأشياء فلا نغتر بالمظاهر، وإنما نبحث عن الحق فى داخله، والله تعالى لا ينظر إلى صورنا وأجسادنا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا.
هذا والله أعلى وأعلم ومنه الهداية
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صيد الفوائد