من روائع حكمة الصوم.. القرب إلى الله وإخماد نار الشياطين
جاءنا رمضان.. شهر بركة، لا يحرم من خيره إلا نادم، حيث تضفي نفحاته الإيمانية نورا يضيء درب المؤمنين، وتشيع لياليه الجميلة سرورا وبهجة للنفس البشرية تكون بمثابة وقود للخير طوال أيام العام، حيث تهوي الأنفس لزيارة المساجد للتزود بخيرها.
وإذا كان دور المسجد في الأصل هو إقامة الشعائر وإجابة السائل وإزالة حيرة المسلم, فيجب أن يزيد هذا الدور في شهر رمضان لكي يصبح ممارسة واتقانا, لأن النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ قال( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين), وهذا الشهر يتميز عن شهور السنة بفكرة تكرار التطبيق ودوامه علي مدي الساعات الأربع والعشرين.
وبما أن عدد المصلين يزداد في المساجد خلال الشهر المبارك, ونفوس المسلمين تصبح أقرب إلي ربها فإنه ينبغي الاستفادة من هذه المزايا لتكثيف النشاط الدعوي في مختلف وسائل الاتصال بصفة عامة وفي المساجد بصفة خاصة، هذه التفاصيل وغيرها في التحقيق الذي أجراه الصحفي أحمد عامر عبد الله بجريدة "الأهرام " القاهرية على النحو الآتي:
يؤكد الدكتور نصر فريد واصل ـ مفتي الجمهورية الأسبق ـ أن للمساجد دورا كبيرا في جمع الزكاة طوال العام بصفة عامة وفي شهر رمضان الكريم بصفة خاصة, لأن شهر رمضان تكثر الزكاة, وأن المساجد إذا جمعت الزكاة وقامت بتوزيعها علي الفقراء في شهر رمضان لن تحل مشكلة المحتاجين, لأنه بعد انتهاء الشهر ستعود مشكلة المحتاجين إلي المساعدة مرة أخري.
ويقترح الدكتور واصل استغلال الجانب الروحاني الموجود عند الناس في هذا الشهر ويقوم كل مسجد أو مجموعة مساجد بينهم مجلس أمناء بدعوة الناس إلي إنشاء كيانات اقتصادية تقوم علي استثمار أموال الزكاة لصالح أصحاب هذه المصادر, بمعني أننا نعمل علي تقوية هذا الجانب بأن تتجمع الزكاة بطريقة ما من مصادرها, واستثمارها في تحقيق التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية, وسد حاجة الفقراء وأيضا دفع الأسباب التي تؤدي إلي وجود فقير أو عاجز في المجتمعات الإسلامية.
والزكاة تقوي الجانب الروحي بين المسلمين, والانسان ما هو إلا جسد وروح ولابد أن يكون كل منهما متوازيا بحيث يحقق القوة البدنية والروحية, وعندما يطغي أحدهما علي الآخر قد يخل بجانب الاستخلاف في الحياة, لأننا أمرنا أن نوازن بين الدين والدنيا باعتبار أن الدنيا الطريق والوسيلة للآخرة وما أحسن قول رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وهذا يعني التوازن والتواؤم بين الروح والمادة والدين والدنيا وبين النظرة للحياة وما بعد الحياة كل هذا إنما يتحقق من خلال قوة الاقتصاد, ولتحقيق هذا التوازن وهذه القوة لابد من النظر إلي أموال الزكاة وتنميتها بصورة استثمارية, بحيث تعود في النهاية إلي فقراء المسلمين وتنقلهم من فقراء إلي أغنياء, فتوجه هذه الأموال إلي المشروعات الاستثمارية الانتاجية التي لها صفة التنافس والقوة حتي نعيد لهؤلاء الضعفاء قوتهم الاقتصادية والبدنية والعلمية.
رسالة إلي الأئمـة
يوجه الدكتور محمد شامة ـ أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الأزهر الشريف ـ رسالة إلي أئمة المساجد في شهر رمضان ويقول, إنه يجب علي جميع الأئمة استغلال هذا الشهر الكريم في تثقيف الناس بأمور دينهم, خاصة التي تتعلق بمشكلاتهم اليومية, التي تتنوع مع بين المشاكل الدينية والمشاكل الدنيوية مثل احتياجات المنزل من طعام وشراب والأمراض التي تصيب بعض المسلمين وحكم الشرع فيها من ناحية اجازة الصوم لهذا المريض أو لا, كما يجب علي الأئمة أن يفهموا عامة الناس أن رمضان ليس شهر كسل وإهمال الأعمال الدنيوية, لأنه شهر نزل فيه القرآن والقرآن يدعو إلي العمل والانتاج فلابد أن يغيروا مفاهيم الناس عن هذا الشهر لأنه شهر لابد أن يقوم المسلمون فيه بأعمالهم الدنيوية حتي اثناء الصيام, لأنه إذا نظم المسلم وقته استطاع أن يقوم بالعبادة علي خير وجه وفي الوقت نفسه لا يهمل في عمله الدنيوي, وشهر رمضان شهر عبادة وعمل, ويقول المولي عز وجل وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فليس المقصود بالعبادة هنا الصلاة والصوم فقط, وانما أيضا العمل أصل من أصول العبادة, فالله عز وجل خلق الناس لاستعمار الأرض واستعمار الأرض عبادة, فالعبادة المقصودة في الآية هي العبادة الدينية والدنيوية معا.
تفقيـه الصائم
وحول دور المسجد في الاجابة عن أسئلة واستفسارات الصائمين يقول الشيخ جمال الدين قطب ـ أمين لجنة الفتوي الأسبق بالأزهر الشريف ـ إنه يجب علي الدعاة والعلماء أن يتناوبوا قيادة الشعائر في شهر رمضان ومداومة تصحيح القراءة لمن يتعلمون قراءة القرآن, وبيان وتفهيم المعاني وإجابة السائل, فيجب حيثما يحضر الانسان إلي المسجد في رمضان في أي ساعة بالليل أو النهار أن يجد داعيا أو عالما يستقبله ويدله ويجيب اسئلته ويزيل حيرته, كما يأخذ بيده لإخراجه من أي مشكلة يعانيها, ولذلك ينبغي أن يكون للمسجد صلة بمجموع من الاخصائيين النفسيين والاجتماعيين والاقتصاديين ليجيبوا ويريحوا المسلم الذي يطرق باب المسجد في رمضان.
ويضيف الشيخ قطب إن رمضان في الأصل ليس شهر علم وإنما شهر عبادة والمأمول ان يبقي المسجد طوال العام مصدر تعليم وبالأخص في شهر رمضان ممارسة واتقانا, ورمضان يتميز بفكرة تكرار التطبيق ودوامه علي مدي الساعات الاربع والعشرين ففي غير رمضان يرجع الناس إلي بيوتهم بعد صلاة العشاء وتغلق أبواب المسجد أما في رمضان فيجب ان تبقي المساجد مفتوحة طوال الليل والنهار لاستقبال الذاكرين والركع السجود والتالين للقرآن حتي إذا كان العشر الأواخر تأكدت سنة الاعتكاف فيدخل المسلم إلي المسجد في معسكر لمدة عشرة أيام بليليها ليجدد نفسه ويراجع مدي انضباطه علي البوصلة الشرعية, كم من الأوامر يأتيها, وماذا أهمل فيه, وليجعل أيام الاعتكاف موسما لأمرين أولهما زيادة تقوية النفس وشحنها للعمل الصالح وثانيها محاسبة النفس ومراجعة ما تم انجازه مما يرضي الله من رمضان السابق حتي رمضان الحالي وهذا هو ابلغ نشاط للاعتكاف.
مسابقـات تثقيفية
ولاستغلال هذا الشهر الكريم في تنمية وزيادة الثقافة الإسلامية لدي الصائمين يقول الدكتور زكي عثمان رئيس قسم الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية الدعوة جامعة الأزهر, إن للمساجد دورا مهما في إبراز القيم وترسيخ المعتقدات, وخير قيمة تفعلها المساجد حقيقة الوعي الثقافي للصائم أو ثقافة الوعي, وأنه يمكن عمل مسابقات إسلامية للأطفال لأن تلك المسابقات تعمل علي تنمية الثقافة الإسلامية وتكون عبارة عن حفظ مجموعة من سور القرآن وكذلك بعض الأذكار النبوية, ويتم تكريمهم وإعطاؤهم الجوائز أمام أولياء أمورهم وجماعة المسجد في الوقت المناسب, كما يمكن أيضا عمل مسابقات للنساء في المكان المخصص لصلاتهن.
ويضيف الدكتور زكي, أن المساجد لا يكون لها دورها البارز إلا من خلال الدعاة الذين يدعون إلي الله علي بصيرة واضحة وسبيل مستقيمة, فعليهم أن يبرزوا ما هي حقيقة الصوم الذي من خلاله يكون الضبط الاجتماعي والتربوي, وعليهم أن يبرزوا أنواع الصوم كصيام العموم وصيام الخصوص وصيام خواص الخصوص, ثم علي الدعاة ان يبينوا حقيقة التنمية الثقافية المتعلقة بهذه العبادة التي لها جوانبها المتنوعة كالجانب العقدي والعبادي والتشريعي والسلوكي والتربوي, إضافة إلي الجانب الاقتصادي, والمساجد بهذا تفعل عبادة الصيام وتبرز ما فيها من نهوض وحركة وتطلع إلي بناء الشخصية السوية المنتجة المرتبطة بربها من خلال عبادة الصوم, ثم علي الدعاة من خلال المساجد ان يبرزوا آثار هذه العبادة وانعكاساتها علي الصائمين والصائمات, ولا ننسي جميعا أن شهر رمضان سيبدأ مع قرب العام الدراسي فيكون الدعاة حريصين كل الحرص ان يربطوا مابين الصيام وطلب العلم والتشجيع علي المذاكرة للصائمين.
لقـاءات مفتوحة
أما عن الندوات ولقاءات المناقشة التي تعقد بالمساجد قبل الإقامة لصلاة العشاء أو بين صلاة العشاء والتراويح فيوضح الدكتور رأفت عثمان أستاذ الفقة المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر, أن اللقاءات التي تحدث فيها الاسئلة العفوية أكثر فائدة من اللقاءات التي يختار فيها الشيخ موضوع الدرس, وأن عقد لقاءات مفتوحة بين الدعاة والناس هي الأفضل, لأن من خلالها يجيب الدعاة عن كل ما يشغل بال الناس من قضايا تحتاج إلي اجابة من علماء الشرع, وهذا محقق للفائدة بصورة أفضل من ان يختار الشيخ موضوعا معينا يتكلم فيه, لأن اختيار موضوع معين قد لا يكون متوافقا مع ما يريد الناس أن يحصلوا عليه من اجابة شرعية, ومن واجبات العلماء ان يجيبوا الناس عما يشغل بالهم لا أن يفرضوا عليهم أمورا قد يكونون علي علم بها, فتكون جلسات المشايخ معهم اشبه بالكلام المكرر والمعاد, كما ان من المفيد أيضا أن يقوم بتوعية الناس في شهر رمضان أطباء فالصائم كما هو محتاج إلي المعلومة الشرعية يحتاج أيضا إلي المعلومة الطبية خصوصا حالات الحوامل وبعض الأنواع من الأمراض التي قد يؤثر الصوم فيها, كمريض الربو والذي يعالج بالبخاخات لتوسيع شرايين الرئة, وأمور النساء اللاتي تعتريهن ويحتجن إلي معرفة حكم الشرع فيها.
دروس للنسـاء
وتوجه الدكتورة آمنة نصير ـ أستاذ الفلسفة الإسلامية والعقيدة بجامعة الأزهر الشريف ـ رسالة إلي المساجد في شهر رمضان بأن يكون الخطاب متجددا ومركزا علي الدور الحقيقي لبناء الإنسان في هذا الشهر الكريم, حتي نعوض ما فاتنا خلال العام ونحو ما ارتكبنا من ذنوب ومعاص, وان يكون في كل مسجد مواعيد محددة لإلقاء دروس يستفيد منها جمهور المسلمين علي أن يقوم بالقاء هذه الدروس متخصصون في العلوم الشرعية, ويجب أن يكون للنساء نصيب وافر في الدروس التي تخصص لهم من فقه النساء وهنا في أشد الحاجة إليها, ويجب أيضا عقد لقاءات للفتيات يتحدث فيها الدعاة عن فقه الطهارة ومحاربة الاسراف في إعداد الموائد الرمضانية, سواء كان ذلك في شهر رمضان أو في غيره, ويجب تعريف النساء بأن محاربة الاسراف لاتقتصر علي اعداد الاطعمة والمشروبات فقط, بل تشمل كل الطاقات المستخدمة في المنازل كالكهرباء والمياه وغيرها من أمور المنزل التي يجب دعوة ربة المنزل إلي الاتزان والاعتدال في تناولها والانفاق عليها لأن الاسراف من اخلاق الشياطين.
وتقترح الدكتورة آمنة أن تكون اللقاءات في المساجد بالنسبة للنساء في أوقات من بعد صلاة الظهر إلي قبيل صلاة العصر حتي تتمكن ربات المنازل من العودة إلي منازلهن لإعداد طعام الافطار, وفيما عدا فقه النساء يمكن دعوة الرجال وتوعيتهم في أمور كثيرة كمحاربة الاسراف والحث علي العفو والتسامح والاحسان إلي الجيران والتعاون علي البر والتقوي.
التذكير بالتاريخ الإسـلامي
ويطالب الدكتور محمود نصار ـ مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر ـ الدعاة بضرورة تذكير الصائمين بالتاريخ والأحداث الإسلامية التي حدثت خلال هذا الشهر العظيم ومنها نزول صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ونزول التوارة لستة مضين من رمضان ونزول الانجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان, وانزل القرآن لأربعة وعشرين من رمضان, ويجب علي الدعاة ان يذكروا الناس بأن من فضل الله علي المسلمين أن جعل رمضان دائما مجالا للانتصارات العظمي التي تأكد بها الدين, وانتصر بها الحق وعلت كلمة الله, ففي السابع عشر من رمضان السنة الثانية من الهجرة انتصر المسلمون في موقعة بدر التي سماها القرآن الكريم بيوم الفرقان والتي هي أول معركة بين أنصار الحق واحزاب الباطل, وفي اليوم العشرين من رمضان من السنة الثامنة من الهجرة فتح الله علي المسلمين مكة وحطم النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ الأوثان ونادي بلال بالأذان من فوق الكعبة, وكانت موقعة حطين في رمضان وكانت أيضا موقعة عين جالوت في رمضان وفيهما اعاد الله علي المسلمين أرضهم وصد عنهم عدوهم ونجاهم من الفتن التي هددتهم لأنهم تعرضوا لرحمة في موسم الرحمة العظمي, وفي العصر الحديث كان العاشر من رمضان معلما من معالم النصر المبين.