وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم(1) يقول الله تعالى في محكم تنـزيله : (000وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52)
يخاطب الله تعالى حبيبه المصطفى ونبيه المجتبى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : وإنك : أي : يا رسول الله لترشد إلى الدين القيم المستقيم الذي هو الإسلام 0
ويقول جل شأنه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:28)
أي : هو جل وعلا الذي أرسل سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بالهداية التامة الشاملة ؛ والدين الحق المستقيم ألا وهو الإسلام 0
وأعظم الرسل هدياً وبياناً وتبياناً هو صاحب الرسالة العامة لجميع الأنام إلى آخر الزمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء:174)
والبرهان المراد من الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد هدى وبيَّن وأقام الحجة والبرهان على العالمين ؛ وأمر الصحابة أن يبلغوا عنه ؛ وكذا من بعدهم إلى يوم الدين 0
والهدي الرباني هو القرآن الكريم بينما الهدي المحمدي فهو الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام رضوان الله عليهم وأمرهم أن يبلغوها عنه ؛ وقد التزم الصحابة الكرام بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلنوا الأحاديث وبلغوها ؛ ونشروا القرآن الكريم وبلغوه لمن بعدهم ؛ وهكذا حتى وصل إلى جميع العالم ؛ وبهذا قامت حجة الله على جميع العالمين المكلفين ؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء هادياً للعالمين كلهم 0
وأول مراتب الهدي :الهدي العام لجميع المخلوقات :وهو المشار إليه بقوله تعالى : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)(طـه:50)وبقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:3)
أي : الذي خلق المخلوقات جميعها ؛ فأتقن خلقها ؛ وأبدع صنعها ؛ في أجمل الأشكال وأحسن الهيئات 0
وقال صاحب البحر المحيط في تفسيره : أي خلق كل شيء فسوَّاه بحيث لم يأت متفاوتاً ؛ بل متناسباً في إحكام وإتقان 0
وصاحب كتاب البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم هو الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي بنيوسف بن حيان الأندلسي المتوفى سنة (745) هجرية؛ الذي يعتبر المرجع الأول في معرفة وجوه الإعرابلألفاظ القرآن الكريم 0
وقال الإمام محمود الآلوسي البغدادي في تفسيره روح المعاني : في قوله تعالى : (والذي قدَّر فهدى) :أي : قدَّر في كل شيء خواصه ومزاياه بما تجلُّ عنه العقول والأفهام ، وهدى الإنسان لوجه الانتفاع بما أودعه فيها ؛ وهدى الأنعام إلى مراعيها ، ولو تأملتَ ما في النباتات من الخواص ؛ وما في المعادن من المنافع ؛ وكيف هدى الله الإنسان لاستخراج الأدوية والعقاقير النافعة من النباتات ؛ واستخدام المعادن في صنع المدافع والطائرات لعلمتَ حكمة الله القدير الذي لولا تقديره وهدايته لكان البشر يهيمون في دياجير الظلام كسائر الأنعام0
والله سبحانه وتعالى خلق كل شيء وأعطاه صورة خلقه اللائقة به ؛ ثم هدى هذا الشيء لما فيه مصلحة وجوده واستمرار بقائه 0
وهناك هدي البيان والدلالة لما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة ؛ وهذا الهدي قائم على الحجة والبرهان إلى ما يهديه إليه ؛ ويكون هذا الهدي بواسطة الرسل عليهم السلام الذين هم حجة الله على العباد المكلفين ؛ وقد أوجب الله تعالى هذا الهدي على نفسه محتماً بقوله جلَّ شأنه : (إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) (12)وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى) (الليل:13)
يقول الشيخ الإمام عبد الله سراج الدين : إن الهدي الذي جاء به سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم هو أفضل الهدي وأجمعه ؛ وفي هذا يقول الحق تبارك وتعالى : (000 إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (الرعد:7)
والهدي المحمدي قائم على الحجة القوية والبرهان القاطع ؛ فهو قائم على البينات العقلية والأدلة الحسية ولذلك يكون جواب المؤمن حين يسأل في قبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواباً قاطعاً بلا وجل ولا تردد ؛ فقد أورد الإمام الطبراني بالسند الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عندما يسأل الإنسان في قبره : ما تقول في هذا الرجل الذي أرسل فيكم ؟
يقول المؤمن : محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه0
وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)هو أيضاً من هدي البيان والدلالة ؛ وهو حجة الله تعالى على المكلفين ؛ ولا عذر لهم يوم القيامة عند ربهم ؛ ولا حجة لهم على الله تعالى فالحق تقدست أسماؤه وتعاظمت صفاته يقول في كتابه العزيز : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (النساء:165)
وعلى الجانب الآخر يقول أحكم الحاكمين جلَّ شأنه : (000وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(الإسراء: من الآية15)
يقول المفسرون : وما كان الله سبحانه ليعذب أحداً من الخلق حتى يرسل إليهم الرسل مذكرين ومنذرين ، ومن هؤلاء الذين لا يعذبهم الله تعالى ما لم تقم عليهم الحجة هم أهل الفترة 0
وأهل الفترة هم الذين يعيشون في وقت لم تبلغهم فيه دعوة رسول ولم يأتهم كتاب كالفترةالتي بين نبي الله عيسى عليه السلام وبين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْرَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ} [سورة المائدة:آية 19]0
ويلحق بأهل الفترة من كان يعيش منعزلاً أو بعيدًا عن الإسلام والمسلمين،وأما حكمهم فإلى الله سبحانه وتعالى0
فقد أورد الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الذين يمتحنون يوم القيامة فذكر منهم الذين عاشوا في الفترة ؛ فقال عنهم يحتجون لله بعدم إرسال رسول فيأخذ منهم المواثيق على الطاعة ثم يأمرهم الله تعالى بدخول النار فمن دخلها فقد فاز حيث إنها تكون عليه برداً وسلاماً لأنهم أطاعوا الله ؛ ومن أبى الدخول كان مصيره إلى النار وبئس المصير والله أعلم 0
يقول الإمام ابن قيم الجوزية : لا يعذَّب أحدٌ إلا بعد قيام الحجة عليه ، وهؤلاء لم تُقَم عليهم حجة الله في الدنيا ، فلا بُدَّ أن يقيم حجته عليهم ، وأحق المواطن أن تُقام فيه الحجة :
بقلم الكاتب السوري :
فؤاد الدقس
المصدر : جريدة عقيدتي
</B></I>