أصول الأخلاق
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
بسم الله الرحمن الرحيم
خلقنا مجتمعين، ولم نخلق متفرقين..
أحببنا بعضنا.. كرهنا بعضنا..
كنا ذوي نسب، أو لم نعرف من اتصال النسب، سوى أنا أبناء آدم..
كان بيننا تفاوت في: الشرف، أو في المنصب، أو الثراء. فمنا الغني الساكن في القصور، ومنا الفقير المتخذ الجبال أكنانا..
والعالي والسافل، والكريم واللئيم.. والمؤمن والكافر..
أيا كان اختلافنا وارتفع بعضنا فوق بعض درجات، فليس من طريق إلا أن نعيش مجتمعين، في أرض واحدة تجمعنا وتؤلف بين أجسادنا، فلا أحد يقوى أن يعيش منفردا معتزلا مترهبا.
والسبب معروف..
نفتقر إلى بعض في: التجاور، والتحادث، والتزاور، والتبايع، والتناصر، والتعاقد، والتعاهد، والتعاضد، حتى في الطعام والشراب، بل ولا يكون التناكح ثم التناسل والذرية إلا بالاجتماع، وكلها أمور لا غنى عنها، وليس في قدرتنا أن يقوم بها أحدنا وحده، مهما في الملك والجبروت، فمن عاش وحده، فما عاش بل تهيأ للموت، والمجتمع للفناء.
لكن إذا كانت هذه منافع اجتماع الناس بعضهم إلى بعض، فهذه المنافع تجر معها المضار أيضا؛ فمن أين يأتي: العدوان، والظلم، والقهر، والكبت، والسخرية والتحقير، والخذلان والتسليم، بل والذنوب من: زنا، وربا، وقمار وميسر، وغش وخديعة لولا هذا الاجتماع ؟.
فالمعتزلون منها سالمون، والمترهبون عنها بعيدون، ومن انفرد بنفسه لم يلحق به إثم لا يتأتى إلا باثنين فما فوق، وعامة آثام الناس لا تأتي إلا من اجتماعهم لا من انفرادهم.
ففي مخالطة الناس تظهر آفات الإنسان وأخلاقه الوضيعة، وهو الذي خلق من عجل، وظلوما جهولا، يخطئ وينسى، وليس له عزيمة.
وللحق فإن المخالطة وسيلة - أيضا - لإظهاره أخلاقه الرفيعة ، وهو الذي خلق على الفطرة، وفيها كل الخير والعافية والسلامة.
فالمخالطة والاجتماع امتحان للإنسان؛ بين أن يظهر أحسن ما جبل عليه، أو أسوأ ما عنده، وليس له من خيار آخر، سوى أن يخوض هذا الامتحان الصعب.
فلو قال: أعتزل؛ لأتجنب آفات الاجتماع. ارتكب من الآفات ما هو أكثر؛ إذ يحرم فوائد الاجتماع، ويجمع إليها مضار الانعزال، وأقربها تفرد الشيطان به، فإنه من الواحد قريب.
فالاعتزال ليس وسيلة الحياة الطيبة، ليست الوسيلة أن يعتزل الولد أبويه، والأخ إخوته، والآباء والأمهات أولادهم، وذووا القربى قرباتهم، والصديق والصاحب صديقه، والأرض لن تسع الناس لو تفرقوا، حتى لا يرى بعضهم بعضا، يحتاجون حينئذ إلى كواكب أخر.
قد يلجأ إليه في بعض الحالات، إذا فسد حال الناس فسادا لا يرجى برؤه، لكنه – أيضا -ليس اعتزالا كليا، بل اعتزال دون اعتزال، يعتزل فيه الخائف على دينه أشرار الناس دون أخيارهم، قال عليه الصلاة والسلام: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال، ومواطن القطر، يفر بدينه من الفتن). [رواه البخاري]
ومع ذلك فالخلطة بالناس، مع الصبر عليهم، ودعوتهم إلى الخير، أمر مشروع مندوب إليه، وهو أحسن من الذي لا يخالط، ولا يصبر، قال عليه الصلاة والسلام:
(المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم) [رواه ابن ماجة].
وما دمنا مجبرين على الخلطة والاجتماع ببعضنا، فما المخرج وما الحل لتلافي آفات الاجتماع، وتحصيل فوائده؛ أي تحقيق غنمها، وتجاوزها غرمها، وهل يمكن ذلك ؟.
* * *
نعم يمكن ذلك، ولولا أنه ممكن ما أمرنا الله ونهانا، فالله لا يكلف نفسا ما لا تطيق، وقد دل على طريق ذلك في ثلاثة كلمات، هي أصول حسن الأخلاق، فقال سبحانه:
{ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.
هذه الآية جامعة؛ جمعت المكارم، فحسن الخلق يدور على هذه الثلاثة:
العفو: وهو قبول العذر، والمسامحة، وترك الاستقصاء والتفتيش عن بواطن الناس.
الأمر بالمعروف؛ الكلمة الطيبة، قال تعالى:{ وقل لعبادي يقول التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا} .
الإعراض عن الجاهلين؛ عدم مقابلتهم بالمثل، قال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.
وقد جمعها عبدالله بن المبارك في كلمات، قال فيها: "حسن الخلق هو: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى". [رياض الصالحين باب حسن الخلق]
ثلاث كلمات بهن يحصل التآلف بين الناس، فتقل شرور بعضهم على بعض؛ فالشر:
يقع بسبب الجهل بما هو شر، فالأمر بالعرف يعلم الناس الخير، وهو قوله: {وأمر بالعرف}.
أو بالعدوان. والمعتدي قد يرجع على نفسه بالندم، وعلى خصمه بالاعتذار، فإذا قبل منه، وعفا عنه: زال الشر ووقع الخير، وهو قوله: {خذ العفو}.
وإذا مضى في عدوانه، فسبيل كفه: الإعراض عنه. وبه ربما ندم ورجع على صاحبه بالاعتذار، وهو قوله: {وأعرض عن الجاهلين}.
فتعليم الناس المعروف، والعفو عن زلاتهم، والإعراض عن جهلهم: وسائل لو اتخذت، انتشر بينهم التعارف والألفة، وما شاع بين قوم الشحناء والبغضاء إلا من إخلالهم بأحدها. ومن جمعها فقد جمع حسن الخلق، الذي هو أثقل شيء في الميزان عند الله، قال عليه السلام:
( البر حسن الخلق) [رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان]
( ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيّ) [رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء، والبذي هو الذي يتكلم بالفحش ورديء الكلام، رياض الصالحين]
وعن أبي هريرة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الجنة، قال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل عن أكثر ما يدخل النار، فقال: (الفم والفرج). [رواه الترمذي]
(أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم) [الترمذي عن أبي هريرة]
(إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) [رواه أبو داود عن عائشة]
(أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) [أبو داود عن أبي أمامة]
* * *
يخيل لمن سمع هذه الأحاديث؛ أنه لو لم يأت من الصالحات - يوم القيامة - بشيء إلا حسن الخلق ، لاستحق أعلى الدرجات في الجنة، لكن هذا مشروط بفعله للفرائض، فهو ثقيل لمن قام بما فرض عليه، ثم ركب من المناهي شيئا، فإن حسن الخلق ثقيل في ميزان المغفرة والتكفير للذنوب، وهو في نفسه حسنة وثواب.
ولا تكمل معرفة أصول الأخلاق إلا بمعرفة ضدها، وقد ذكر النبي الكريم منها طرفا، فقال:
- ( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون)، قالوا: يارسول الله: قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) [رواه الترمذي. انظر رياض الصالحين]
- فأما الثرثرة: فكثرة الكلام في غير فائدة، فمن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه ساء خلقه.
- وأما التشدق: المتكلم بملء فيه تفاصحا، وتعظيما لكلامه، وإظهارا لفضله على غيره.
- والتفيهق: التكبر، والكبر هو بطر الحق وغمط الناس؛ أي رد الحق وعدم قبوله، واحتقار الناس.
أهم شيء بعد هذا، معرفة أن حسن الخلق يقوم على: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
فالصبر: يحمل على التحمل، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق.
والعفة: تحمل على اجتناب الرذائل من القول والفعل، وتحمل على الحياء رأس كل خير.
والشجاعة: تحمل على مَلْك النفس وعدم التهور، وعزة النفس وإيثار معالي الأخلاق.
والعدل: يحمل على اعتدال الأخلاق، فكل خلق محمود يكتنفه خلقان ذميمان هو وسط بينهما، متى انحرفت النفس عن التوسط، مالت إلى أحد الخلقين:
كالجود: هو بين البخل والتبذير. فإذا انحرفت عن الجود، صارت إلى أحدهما.
والتواضع: هو بين الذل والكبر. فإذا انحرفت عن التواضع، فإلى أحدهما.
والحياء: بين الوقاحة والخور. والميل عن الحياء، ميل إلى الوقاحة أو الخور.
والشجاعة: بين التهور والجبن.
وما وضع الله في طبع الإنسان خلقا إلا لفائدة، فالله تعالى لا يخلق شيئا عبثا:
وضع فيه العزة ليتعزز ويترفع على المعصية والكفار والشيطان؛ ولذا يجوز اختيال المجاهد في صفوف القتال، لكن سوء الخلق أن يستعمل عزته على المؤمنين.
ووضع فيه الذلة ليخفض جناحه للمؤمنين.. وسوء الخلق أن يجعل ذلته للكافرين.
ووضع فيه الشهوة لأجل المودة والتناسل، وسوء الخلق أن يضعها في الفواحش.
ووضع فيه الغضب لإقامة الحق، وسوء الخلق للانتصار للباطل.
فليس المطلوب التخلص من هذه الأخلاق، إنما التوسط فيها، وهو حسن الخلق.